عمارية دارفور وخرابها, بأبنائها: حوار حول خيار الصراع المسلح ومآلاته

د. علي بحرالدين علي دينار/فيلادلفيا/أمريكا

aadinar@sas.upenn.edu

 

إفتراضية:

هذا الحوار تم بناءه على الآتي:

حقيقة الظلم الحائق بأقليم دارفور فى شتى المجالات: إقتصادية, إجتماعية, سياسية, منذ الإستعمار وحتى الآن.

خطل وتجاهل كل الحكومات المركزية المتعاقبة في سياساتها لإزالة الظلم والنقل بالأقليم لعالم أرحب.

إن ماعانتة دارفور حالياً من خطل هذه السياسات الحكومية, ومايشهدة الأقليم الآن من دمار فيما هو زائل ومن وشائج,  لم يتم حدوثه منذ نشوء الدولة في دارفور في القرن الثالث عشر.

حول الخراب والعمارية

أن الممتبع لتاريخ دارفور يشهد لها بالإستقرار والسلامة طوال تاريخها التليد وقبيل إدغامها في دولة الحكم الثنائي عام 1916. إلا أنه وفي ذات الوقت فإن في تاريخها العديد من الثورات ضد السلطات المركزية, محلية كانت أم خارجية. فدارفور خلال تاريخها لم تنكفئ على نفسها في رقعتها الجغرافية. وفي ذات الوقت وللإقليم علائق دبلوماسية –إقتصادية مع كل دول الجوار. وإبان الهبة الإستعمارية في مناطق الغرب الأفريقي, كانت المكاتبات الدبلوماسية سائرة بين هذه الكيانات المهددة في ركونها لحكام دارفور طلباً للمشورة والتنسيق.

وعظمة دارفور وعماريتها يمكن إستشفافه من مدونات الرحالة الذين زاروا الأقليم في حقب مختلفة بدءً بعام 1798, وأيضاً من خلال التاريخ الشفاهي للمنطقة ومن حالات الإستقرار السياسي المتفرد المتمثل في التداول السلطوي وسلسلة حكامها لخير دليل على الإستمرارية والحس السياسي المرهف.  وهو إقليم متعددة جنسياته منذ الخليقة, وهي تشمل سكاناً خلط بين مستعربين وأصليين قاطنين في مناطق عديدة؛ متفردة مناخياً بين صحراء وشبهه, إلى مناطق السافنا الغنية وشبه الأستوائية, وتحت درجات متفاوتة من المعاش بين رعاة رحل, وزراع مستقرين, وأماكن حضرية ذات كثافة سكانية عالية. ودارفور قد قسمها حكامها إدارياً إلى ديار أربعة و لها نظامها الإداري المحلي المتفرد الحاو علي تسميات محددة لشاغري كل وظائف الدولة. وهي أيضاً لم تكن دولة قاصرة على الفور, بل كانت جامعة للكل طوال تاريخها حسب شاغري عال المناصب.  كل هذا يعني بأن عمارية دارفور في هذا الوقت هو نتاج محلي صرف, له الكثير من الوشائج والأرث مع نظائره في غرب أفريقيا, أكثر مما له مع مناطق حدودة الشرقية, وهذه المفخرة هي صنيعة كل سكان دارفور ولكل منهم أسهاماته في الخلق والتطبيق وإمكانية جعل هذا الأنموذج الإداري يعمل بكفاءة عالية. وتحت هذه الظروف كانت دولة دارفور وهي لم تكن متفردة سياسياً فحسب, بل وثقافية أيضاً مردها حالات الإستقرار وإستباب الأمن في أرجائها و فيض المهاجرين أليها, والمستقرين فيها, وليس أصدق على ذلك من تفرد دارفور في مجالات الأطعمة والأشربة, اللباس, الأحذية, المشغولات اليدوية, والموروث الديني من كثافة للخلاوي ومكانة رفيعة للعلماء (الفقرا) وإنحسار كثيف للإعتقاد في الأولياء والصالحين وهو نقيض ما عليه حال ثقافة السودان النيلي. وإختلاف حتى في إحتفالات الزواج, الميلاد, والمآتم, تكفين الميت – كل هذا أرث خاص بدارفور, تسرب بعضها لمناطق السودان الاخرى وقبلت كموروث محلي, إلا أن هنالك الكثير من العادات هي من خصوصية الأقليم ويمكن ردها إلى سيل الهجرات الوافدة إلي الأقليم وانفتاحها محلياً وعالمياً. وتحت هذة الظروف شهدت دارفور حقبة من العمارية في حواضرها, ليس أدل على ذلك مما أختطة الرحالة لما أندثر الآن من نماذج عمرانية في كوبي, عين فرح, أوري, وكبكابية.

إلا أن هذه العمارية, قد لازمتها أحياناً فترات من الخراب يعود بعضه لحروب أهلية بين السلطة الحاكمة و"الخارجين" عليها, وأحياناً بين قبائلها المتناحرة .  إلا أن فترات الخراب الهائلة التدمير كانت جميعها تالية لهزيمة السلطة الحاكمة من قوى خارجية. فالخراب الأول لدارفور تم عام 1874 أثر هزيمة سلطانها إبراهيم قرض على يد الزبير باشا, وتلى ذلك سبي ونهب للديار وتهجير لمصر, وقد سار على هذا المنوال كل الأدارات التركية المتعاقبة على حكم دارفور, وما تبع ذلك من ضنك في سبيل القضاء على ثورات متتالية من المنادين بالسلطة من أبناء دارفور. وهذه فترة كان ديدنها الخراب والقهر وليس عمراناً وأمناً كما كان في الماضي.  وخُرِبت دارفور ثانية إبان الحكم المهدوي, فرغم أنها ناصرت الثورة منذ إندلاعها, إلا أنها ذاقت الأمرين نتيجة هذه "الطاعة" بسبب سياسة الخليفة للتهجير القسري مما أدى إلى إخلاء المنطقة سكانياً, وهو أيضاً ما يفسر وجود الملايين الآن من أبناء الأقليم في مناطق وسط السودان. وقد ثارت دارفور كلها ضد الحكم المهدوي, ليس رفضاً للمهدوية, ولكن لجِؤرها وظلمها, وقد كان في قمة السلطة الحاكمة آنذاك الكثير من أبناء دارفور المهدويين, وهم ينفذون سياسات الخليفة. وقد تجسدت نقمة دارفور ضد المهدية في ثورة أبوجميزة  من سبتمبر  1888 إلي فبراير 1889. وهي ثورة حقيقية إلتف حولها الآلاف من شتى قبائل دارفور وألحقت بالقوات المهدوية العديد من الهزائم العسكرية مما دفع بالكثيرين للأنضمام  إليها, إلا أنها تلاشت بعد وفاته بالجدري. وبعد زوال دولة المهدية كان الإهتمام ثانية بعمارية دارفور الخاربة, وكان إهتمام السلطة حينها هو إعمار دارفور بتهجير أبنائها من وسط السودان إليها, وتشجيع هجرة العلماء وغيرهم, وكان من أهم وطائد تنفيد هذه السياسات هو إستباب الأمن في شتى أرجاء الأقليم, وبسط سلطة الدولة.

وإثر ضم دارفور لبقية السودان عام 1916, لم تكن لدولة الحكم الثنائي من بديل إداري فعال سوى النهج الإداري المتوارث ولكن بألبسة جديدة. ولم تنتهج من سياسات جذرية إقتصادية وتنموية في هذا الأقليم – وهذا يأتي أساساً من أن سعى الحكومة لضم "فتح" دارفور كان قسرياً مردة تداعيات الحرب العالمية الثانية, وإعلان علي دينار الجهاد عليها, إضافة إلي توغل القوات الفرنسية في مناطق كانت أساساً هي تابعة لدارفور, وزحفها شرقاً بعد أن أوضحت لبريطانيا بأنها لن تعترف بالحدود الجغرافية لدارفور مالم تقم بريطانيا بفرض سيطرتها الفعلية عليها, أي قهرها سياسيساً. وإبان الحكم الإستعماري كانت هنالك ثورة الفكي عبدالله السحيني عام 1921, وهي أيضاً ثورة شاركت فيها قبائل متعددة, وألحقت خسائر عديدة ضد القوات البريطانية حيث نجحت في ضرب الحامية العسكرية في نيالا وقتلت مفتش المركز الأنجليزي ومعاونية, إلا أن السحيني وقع في الأسر وتم شنقه مع بعض رفاقه علناً في سوق نيالا من قبل السلطات الإستعمارية.

أن المتميز في ثورتي السحيني وأبو جميزة, كونهما ثورتان مسلحتان ضد سياسات الظلم المتبعة من قبل السلطات الحاكمة, وهما قد ضمتا قبائل عديدة كثيرة مختلف جذورها, أجمعتا على إنهاء الظلم,  وهذه البواكير الأول للثورة والعمل المسلح كانتا رد دارفور تجاه جبروت الدولة,  ولم يشهد الإقليم عملاً مسلحاً آخر ضد سلطة حاكمة إلا في حركة داؤد بولاد عام 1991, وحركة تحرير السودان الآن.

حول حمل السلاح في مواجهة الظلم: حركة داؤد بولاد:

يذخر التاريخ الإنساني بالكثير من الأمثلة حيث للسلاح دور كبير في إحداث التغيير – وخير دليل لذلك يمكن ملاحظته إبان الهجمة الإستعمارية الأوربية في مسعاها لقهر الشعوب.  وتحت هذا يمكن درج حركات التحرير المسلحة ضد المستعمر كما في أنقولا, إثيوبيا, زمبابوي؛ حيث إستطاعت هذه الحركات من هزيمة مستعمريها ونيلها إستقلالها. وفي ذات الوقت هنالك حركات تحرير مسلحة لها صنوها السياسي فلحت في تحقيق التغيير المنشود ليس فقط عسكرياً بل و سياسياً كما حدث في يوغندا, جنوب أفريقيا, إريتريا وجنوب السودان.  والقاسم الأعظم بين كل هذه الحركات المسلحة هو وضوح الرؤيا السياسية وهي جديرة بإلتفاف أو إنفضاض الناس من حولها.  

ففي تاريخ دارفور هنالك أمثلة مشابهة تم فيها إستخدام السلاح لدرء الظلم كما في حركتي أبوجميزة والسحيني وهما في تقديري ثورتان حقيقيتان ناجحتان ليس فقط في إنتصاراتهما العسكرية المتواضعة, ولكن في كونهما حركات جامعة, إلتف حولها الجميع, فهي ليست ثورات بالوكالة. وفي هذا لا يمكن مطالبتهما بوضوح أجندتهما السياسية سوى المناداة برفع الظلم, وهما في تقديري لشئ كاف ومستوف لشرط الثورة.  وإزاء هذا يمكن ملاحظة ضعف تأثير حركة داؤد بولاد في دارفور, رغم حماسه في إحداث التغيير المنشود.  وهي تعكس أيضاً خطورة منطق الأمر الواقع, بأن لا طريق لخلاصه إلا الإنقياد القسري لكل حركة مسلحة.  أن تداعيات حركة بولاد على الأقليم وعلى منطقة جبل مرة في ذات الخصوص لهي أكبر بكثير من أي "حسنات" تذكر, فهي قد أعطت الحكومة "حليفة بولاد بالأمس" اليد الطولى في جر المنطقة إلى الكثير من الويلات ولعبت على حبل الصراع القبلي بين جماعات كانت هي حتى بالأمس القريب المثال الحي للتماذج والتعايش ليس تنظيراً ولكن فعلاً وعملاً؛ إلى جماعات متناطحة الآن.

كان رد فعل الحكومة تجاه حركة بولاد, ليس فقط عسكرياً, بل ودرامياً أيضاً حيث لجأت في الاستعانة بجيش من "الفرسان العرب" على صهب مسرجة في محاولة لاعادة وإجترار الماضي الأسلامي-العروبي حيث الجيوش المسلمة سائرة في دك معاقل الشرك, وهي الآن في نظر الحكومة سائرة في دك معاقل "الوثنية /التمرد /الشيوعية" ممثلة في شخص بولاد "الكافر" الذي باع نفسه "للشيطان" قرنق. ولعل السرعة التي حسمت بها حكومة الإنقاذ حركة بولاد, نقيض لما هو دائر الآن,  مرده أيضاً البعد الشخصي داخل تنظيم الأخوان بإنسلاخ بولاد عنها و تبعات ذلك على آخرين من أبناء المنطقة. فهي أيضاً إشارة لكل من تسول له نفسه بالانسلاخ من التنظيم والمجاهرة بعصيانها. لذا فلم يكن من دافع للحكومة في تطويل المواجهة مع خصم يعرف عنها الكثير, ولهذا لم تتطلع الحكومة في أستغلال هذه المناسبة لبلبلة كل الأقليم بل في سريع إستئصالها وعزلها.  هنالك الكثير من العبر يمكن أخذها من حركة بولاد:  

أهمية خلق أرضية جماهيرية واعية تعي بقضاياها وفتح حوار مع أبناء الأقليم, وتنويع مصادر العمل المعارض وليس أختزاله في العمل العسكري, كأهم وأقصر الطرق؛

الأفتطان إلى مرامي الحكومة المركزية في شن حرب عنها بالوكالة بتأليبها لجماعة ضد أخري, والأحتراز لإبطال هذا المخطط والتبصير به كأحد الوسائل التي يمكن للحكومة اللجوء إليها؛

في واقع دارفور, أي عمل يرجى له النجاح كمشروع سياسي لا بد من شموله لجميع الأثنيات المتعددة, قولاً وعملاً. فأي تجربة أحادية الجانب, وأن كانت حسنة الغاية, يمكن بسهولة محاصرتها ورميها بكل النعوت من الأطراف الأخرى.

حول حمل السلاح في مواجهة الظلم: حركة تحرير السودان

شهدت الفترة بعيد مقتل بولاد الكثير من حوادث الأحتراب القبلي في أرجاء عديدة من دارفور وهي جميعها بين مجموعات قاطنة في موقع واحد حيث الكثير من التداخل والتمازج, جرت صراعات عديدة منها على سبيل المثال:بين المعالية والرزيقات في الستينات وقبل عامين, بين الرزيقات والمسيرية, بين الزغاوة والعرب في الضعين,  بين التعايشة والسلامات في أوائل الثمانينات, بين الزغاوة والمهرية ضد الفور 1983-1987, بين الفلاته والقمر حول المجالس الريفية, بين المساليت والعرب منذ عام 1996 وحتى الآن, ومرتين بين الفور والعرب في منطقة جبل مرة في الثمانينات والدائرة الآن منذ 1998.  جميع هذه النزاعات كانت تتم بين مجموعات قاطنة في ذات الرقعة الجغرافية لسنين طويلة, وهي لم تكن غارات بين قبائل متباعدة, مما يعني أن هذه المنازعات يمكن إحتوائها,  الكثير من هذه الصراعات في مجملها إنذارات ورد فعل لسياسات التهميش السياسي والأقتصادي والذي أكتوي به الأقليم تحت ظروف الضيق المعيشي والندرة وغياب الدولة وهي مهمومة بحرب الجنوب ونفخ جيوب محسوبيها من مدخلات البترول, ولم تع ولم تكن جادة لمعرفة الأسباب الكامنة وراء حدوث هذه المسائل وكيفية العمل المستقبلي لمواجهتها. شهدت هذه الفترة أيضاً تزايد أعمال النهب المسلح وهي قد صارت الخيار المعاشي للكثيرين من قبائل دارفور المختلفة. ولكن عوضاً عن السعي لمعرفة أسباب ودوافع أعمال النهب, قامت الحكومة المركزية بوصم قبيلة الزغاوة بكونها وراء هذه الأحداث وأمرت بشن غارات مسلحة ضدها, ورغم ذلك لم تتوقف أعمال النهب. وهذا المسلك الحكومي لهو أمر عجب: كيف يمكن لحكومة "قومية" الأشارة إلي مجموعة سودانية واصمة إياها بأعمال السرقة؟ اللهم إلا إن كانت الحكومة بأشخاصها تتصرف في سياساتها بالرجوع إلي مخيلتها  الشعبية المتوارثة بتصنيف قاطنيها كل حسب ما وصل إلي سمعها شفاهة, وهذه هي الطامة الكبرى.

ومع وجود كل هذه الصراعات القبلية, ألا أن أي منها لم يتطرق بكثافة عن ضلوع الحكومة في مساندة مجموعة ضد أخري كما في النزاع الجاري الآن بين الفور والعرب في منطقة جبل مرة, وبين المساليت والقبائل العربية في منطقة الجنينة. ورغم كون منطقة دار مساليت وعاصمتها الجينية لم تضم فعلياً لحكومة السودان إلا عام 1922 بأتفاقية وقعت بين الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية. ولدارمساليت جهاداتها غير المدونه في منهجنا التعليمي في ذودها عن الحمى في الثغور الغربية, أقلها مقتل القائد الفرنسي مول والسلطان تاج الدين في معركة دروتي في نوفمبر 1910.  وجاءت حكومة الأنقاذ وهي ليست بأحسن من غيرها مما تعاقب من حكومات في سياساتها تجاه دارفور؛ فقامت بتقليص سلطات سلطان المساليت, وبمؤازره فاضحة وصريحة لبعض الأنتهازيين المحسوبين علي القبائل العربية, وكان لغياب الدولة كحامية للمواطن حتي في وجود نزاعات قبلية كل علامات الإستفهام بأن المقصود هو تمكين عنصر بعينه ضد آخر. وتحت هذة الظروف لايمكن إعفاء الحكومة المركزية من تحيزها , خاصة وأن النزاع القبلي يمكن وقفه أن أرادت الحكومة بكل مافي يدها من أمكانات, إلا أنها لم تقم بعمل شئ, خاصة وأن هذه الإغارات تتم جميعها بحرق للقرى ونهب للاموال والأنعام وقتل للأنفس. طوال هذه الحقبة لم يكن المطلب هو إقامة مصنع أو مدرسة, أو مستشفى ,وجميعها مهمة؛و إنما  أستغاثات للدولة بالحماية؛ إلا أن للدولة فهمها الخاص في كيفية الإستجابة لهذه الأستغاثة, بما هو صائر الآن في دارفور من دمار.

وما يحدث لآن بين المساليت والقبائل العربية, هو يحدث الآن بين الفور والعرب في منطقة جبل مرة حيث تتم أعمال حرق القري وقتل الأنفس ولفترات طويلة. وترجع الأفادات هنا أيضاً بضلوع الحكومة وراء هذه الأحداث وتأجيج الصراع بموالاتها لأطراف ضد أخرى؛ و إن كان بعدم تدخلها لنصرة فريق ضد آخر. ورغم وضوح هذه الأستغاثة ولسنين, لم تعمد الحكومة جدياً لوقف الإحتراب وبسط الأمن, بل كانت مهمومة بتصوير هذه النزاعات كنشاط سياسي لأبناء الفور ضدها, وفي تقارير منظمات حقوق الأنسان رصد كافٍ لكل هذه الإعتقالات من أبناء الفور في زالنجي ونيالا.

وحينما بلغ أنفراط العقد الأمني أشده من نهب مسلح وهجوم على قوات الحكومة, تم عقد مؤتمر صلح في الفاشر لمداركة هذا "الأنفراط الأمني"؛وأثناءه تم أحتلال قولو في جبل مرة من جماعة أطلقت علي نفسها "جبهة نهضة دارفور", ورفعت علمها إيذاناً ببدء الكفاح المسلح. هنا  يمكن بوضوح التفريق بين موقف حاكم دارفور وهو من أبناء الأقليم في مسعاه لحل هذه الأزمة سياسياً ودون إستخدام القوات الحكومية, بالتفاوض, وبين خط الحكومة المتشدد, شكل المؤتمر لجنة لمقابلة مظالم الفور-الزغاوة-العرب. ومع سير هذه المفاوضات قامت الحكومة بمهاجمة قولو مما أدي لتعنت محاربيها برفض الحوار. كانت تلك محاولة مضمونة النتائج من جانب الحكومة لاجبار المحاربين بالمضي قدماً في حربهم.  وهذا أيضاً تأريخ لمرحلة جديدة للمواجهة العسكرية بين الحكومة وحاملي السلاح في جبل مرة. وقد سارعت الحكومة في البداية للبحث عن مسوغات لهذه الحرب, بأن المدعو عبد الواحد محمد أحمد نور, وهو محام من أبناء زالنجي بأنه شيوعي؛ مما يعني ضمنياً مشروعية محاربته ومجاهدته.  ورغم دعاوي الحكومة بوصم المحاربين ضدها بالفيلق الشيوعي, بادر الدكتور خليل إبراهيم (من قيادات الأنقاذ سابقاً) زعيم حزب العدالة والمساواة من مقره في ألمانيا معلناً بأن حركته وراء كل هذه الأحداث في دارفور. ومضى في التعريف بحركته بمسعاها في "إنهاء الاستعمار المحلي" وبأنها حركة "قومية" تسعي لخير كل السودان. ودكتور خليل, كلأخ بولاد كان أنشقاقه/لفظه من التنظيم الأم جاء بعد شغره للعديد من المناصب علي المستويين القومي والولائي  وكالة عن حكومة الأنقاذ. ورغم وجود هذه الظلامات وسياسات التهميش وتأجيج الصراع القبلي في دارفور إبان تقلده لهذه المناصب, إلا أنه لم يجاهر بمعارضته لخطل هذه السياسات حيث كان مشاركاً ومنفذاً؛ إلا أنه وجد الآن ضالته في هذه الحركة المناهضة للحكومة, وهي حتى ذلك الوقت لم تفصح عن نفسها وكيانها سوى كونها جبهة نهضة دارفور. هذا التسارع من جانب حركة العدل والمساواة,  بنسبة أحداث جبل مرة إليها تلاهُ بيان من الحزب الفدرالي السوداني ممثلاً في نائبه د. شريف حرير, بأن قواته وأشخاصاً أسماهم في بيانه الأول بأنهم القادة الحقيقيين لهذه الحركة وأن المحامي عبدالواحد هو عضو بالتنظيم الفدرالي, هذا أمر عجب, ويمكن أدراجه في باب الانتهازية السريعة, فبدلاً من مؤازرة الحركة الوليدة, كان دافع الكل هو نسبة هذه الحركة إليها.

أصدر محاربي جبل مرة بياناً في مارس 2003 ممهوراً بإسم سكرتيرها يوسف أركوي مناوي أعلنت فيه تغيير إسمها إلى حركة تحرير السودان. ورغم سيادة الجو التحاوري في مؤتمر الفاشر في حل الأزمة, إلا أن الحكومة بادرت بضرب معاقل الحركة, وقد ردت هي بإحتلال الطينة, مما دفع بعلي عثمان محمد طه للتصريح بإستخدام السلاح دون غيره لحسم الحركة. وفي 25 أبريل 2003 قامت الحركة بشن هجومها علي أهداف عسكرية في الفاشر, وتلى ذلك هجوم لاحق على مليط.  أرخت هذه الفترة نقل الصراع المسلح إلي مناطق آمنة نسبياً وبعيدة عن مواقع الصراع القبلي التقليدي. وفي يوليو 2003, قامت قوات الحركة بضرب أهداف عسكرية في كتم؛ وعلى أثره كان الرد الحكومي أكثر إيلاماً وجبناً بأطلاق العنان لمليشيات قامت بتسليحها وتزويدها من أفراد بعض المحسوبين على القبائل العربية, وأطلقت لها العنان بالعيث فساداً في المدينة بنهبها وقتل وترويع الآمنيين من أهلها دفعت بهم للسير آلافاً إلي الفاشر طلباً للحماية. تمثل حادثة كتم بداية جديدة للصراع الدائر في دارفور بلجوء الحكومة لسياسة هي أدري بها بتسليح مليشيات ودفعها للحرب إنابة عنها.

أن لجوء الحكومة لتسليح مليشيات محاربة معها, ليس هو بالأمر الجديد أو المستغرب, وهي تدرك تماماً تداعيات هذه السياسة على البنيات الإجتماعية والمعيشية؛ بتسميم العلائق حالياً ومستقبلياً بين سكان إقليم واحد لابد لها من التعايش. أن تصوير مآلات الأحداث الجارية من شجب لأعمال (الجنجويد) ووصفها بالعدو اللدود, لهو أساساً ما ترمي إليه الحكومة؛ ليس إحراجاً لجماعات الجنجويد, بل ولشغل سكان الأقليم بتوجيه عين الملامة والغضب إلي مجمل القبائل العربية, وهي جزء أصيل من تركيبة دارفور السكانية, وفي ذات الوقت هي ساعية في تأليب جماعات خارجة واعدة إياهم بمزيد من الأراضي والأمتيازات علي حساب المجموعات الأخرى.

إن كان مقصد الحركة هو دفع الظلم عن دارفور وإرغام الحكومة على الأعتراف بها كحركة سياسية لها مطالب محددة وتبصير المجتمع الدولي بقضايا الإقليم, فأن الحكومة وبخبث سياساتها قد نجحت في تصوير هذا الصراع بكونه قبلياً, وبدلاً من لفت نظر المجتمع الدولي إلى دارفور كأقليم متخلف مهضوم الحقوق صار الآن جل الأهتمام بدارفور كمنطقة كوارث من صنع الأنسان, وصارت الأولوية في كيفية أيصال الأغاثة لسكانها المتضررين من طعام وكساء و خيام.

نقد الخطاب السياسي والعسكري لحركة تحرير السودان:

منذ ظهور حركة تحرير السودان إلي العلن, قامت باحراز الكثير من الانتصارات العسكرية ضد القوات الحكومية, عتاداً وأفراداً. وقد خلقت عناصر المباغتة والجرأة التي نفذت بها هذه العمليات أمثلة جديدة في حرب العصابات في كيفية إلحاق الأذي بالخصم وبأقل ما يمكن من خسائر؛ من تدمير لطائرات جاثمة وقتل مئات العسكر (رغم كونهم أيضاً من دارفور). إن ما حققته الحركه في زمانها القصير لم تستطع جميع حركات المعارضة السودانية المسلحة بكل ما توفر لديها من أمكانات من تحقيقه في فترة مشابهة. إلا أن الزهو بالأنتصارات العسكرية السريعة, قد أغرت الكثيرين بالتهليل دون عميق تفكير في إمكانية تجنيد الحكومة لمليشيات من أبناء دارفور ذاتها لمحاربة إخوتهم.  ورغم هذه الأنتصارات فاتت على الحركة بذل اليسير ممن أتت "لتحريرهم" لتنويرهم ببرنامجها السياسي والذي من أجله ركنت للسلاح. فالبرنامج التأسيسي المعلن "المانفستو" هو إعلان لعموم السودان , وليس فيه من خصوصية للمشكل الدارفوري خاصة فيما هو حادث في الإقليم. ويبدوا غلبة الطابع العسكري للحركة وعدم تشدقها سياسياً يبدو واضحاً من خلال المفاوضات الأولي التي أجريت مع قيادات الحركة والتي وصفها الوزير الأقليمي في الفاشر بأنها "مطالبهم" بسيطة وقابلة للتنفيد وليست تعجيزية. ففي 19 مارس 2003 أعلنت الحركة من موقعها في جبل مرة لوفد الفور الموفد من قبل المؤتمرين في الفاشر بأن لها خمسة مطالب, أهمها إصدار عفو عام للجماعة المسلحة, ومطالبة للحكومة بتنفيد برامج تنموية في إقليم دارفور. أن "بساطة" هذه المطالب بمنظور كل حصيف علي مستقبل السودان كان يمكن للحكومة المركزية الاعتراف بها, حقناً للدماء و ليس ضعفأ, وهي في مجملها مطالب عادلة ومشروعة.

أتيحت للحكومة فرصة أخرى لتجنب الحرب إبان إلتقاء وفد كبير من أبناء دارفور وبعضهم وزراء في الدولة, بقيادات الحركة في الطينة, وفي هذه المرة تقدمت الحركة بأثني عشر مطلباً أعلن عنها مطالبتها للحكومة للإعتراف بها كحركة سياسية, وأن تكف الحكومة عن تسليح الجنجويد؛ وكان روح التفاوض أيجابياً, وكان من المفترض أن تعلن لجنة الوساطة عن نتائج مسعاها في مؤتمر صحفي في الخرطوم إلا أن السلطات الحكومية لم تسمح لها بذلك. وهي تدرك سلفاً بأن تحركهم ما كان له أن يتم دون مباركتها. هذا يعني أيضاً بأن الحكومة لم تكن مستعدة لأخذ الحركة بجدية, وإحتواء الحرب الدائرة, وهي تعلم سلفاً بأنها الغريم المعني في هذه الحرب. وحينما تتالت الهزائم على جند الحكومة وآلياتها, وأزدياد الإنفراط الأمني, ركنت الحكومة وعلى مضض لتوقيع إتفاقية وقف إطلاق النار مع الحركة في تشاد.  حينها لم يرى أهل دارفور المكتوين بنيران الحرب أي تغيير في خطاب الدولة السياسي,  ولم تفلح الحركة  التي أتت "لتحريرهم" من ضمان حمايتهم دائماً من أيادي الحكومة المتسربلة بعباءة الجنجويد.

ضعف خطاب الحركة, سياسياً ربما يعكس أيضاً محدودية الفهم الجامع لقضايا دارفور وإمكانية الخروج بها إلى آفاق أرحب لأقليم متعدد الأعراق والثقافات؛ كما يعكس أيضاً بساطة ما تسرب من مطالب بأن الحركة هي الآن في لحظات نضج وهي لم تصل ذات النضج سياسياً يوم كشفت عن ساقها, عسكرياً. وعدم هذا النضج يمكن أيضاً ملاحظته في قصور الواجهة الأعلامية-السياسية في عدم إبرازها لتعدد كافٍ لكل فعاليات الأقليم الأثني لدحض أي إفتراء بأنها حركة للبعض وليس للكل؛  فهي لم تظهر تنوعاً أقليمياً أو قومياً  في واجهتها الإعلامية. فالحركة وأن كانت تحمل كل النوايا الطيبة, فهي غير معصومة من الخطأ شأنها شأن أي عمل سياسي من صنع البشر؛ ولذا لابد من نقدها من أجل أصلاحها وتقويمها كلما دعا الداعي, وليس تدليساً وإنتهازية.

أن مردود المظاهرات التي سيًرت في دارفور إبان تقسيم الأقاليم في العهد النميري, حيث ألبست دارفور وكردفان في ثوب الاقليم الغربي, قد أرغمت نظام النيمري وهو في قمة جبروته من الانصياع للهبة الجماعية من كل مواطني دارفور وأرغمتها للتراجع عن قرارها. أن دلائل تلك المظاهرات الشعبية وما أفرزته من مظاهر وعي علي الصعيد الجماهيري لهي أعمق ويمكن دائماً الأخذ بها كأحدى الوسائل اللازمة في إحداث تغيير لزيادة الوعي الكيفي بقضايا الأقليم وخلق رصيد كمي واعٍ بقضاياه.

أن إنسان دارفور اليوم ليس في حوجة للتذكير بظلمه وتهميشه, فهذا أمر واقع ولا يحتاج لجلسات تنويرية لأقناعه بعدالة قضاياه, ولكنه في حوجة إلى التفكير معه في وسائل تغيير هذا الواقع المضروب عليه لكي تأخذه الحكومة بجدية للعمل علي رفع معاناته؛ وفي هذا يجب توجيه الخطاب لأهالي دارفور أولاً للتفاكر ليس فقط في علاقة الحكومة المركزية بدارفور, ولكن في التفكير جماعياً حول قضايا الإقليم المحلية.  وعلى هذا فالخيار العسكري الذي  ركنت إليه الحركة يمكن أن يكون هو أحدي وسائل الضغط, إلا أن ضخامة العمل العسكري للحركة قد خلق واقعاً أكثر تعقيداً وشائكاً مما كانت عليه الأحوال من قبل. فجل القضية الآن بمنظور أهالي دارفور هو أستتباب الأمن وحماية أنفسهم من غارات الحكومة متسترة في مليشيات مناوئة من أبناء الأقليم؛ وليس هذا هدف الحركة ولكن نتيجة منطقية حال الأخذ بالخيار العسكري إلي أقصى نهاياته.

لا يمكن بحال من الأحوال النظر منهجياً إلي قضية دارفور بمعزل عما حولها أقليمياً, قومياً ودولياً. فقومياً فالقضية مرتبطة أيضاً بذهنية الطبقة الحاكمة في الخرطوم في رؤيتها لقضايا الأقليم, وهو موروث ثقافي للكثيرين من على دست الحكم من يمينيين ويساريين.  هذه الأزمة تمت بمشاركة فعلية من بعض أبناء الأقليم, حلفاء النظام بالأمس, وأعداؤه اليوم, متلحفين بدثار قضايا دارفور للنفاذ ببني جلدتهم لمراكز صنع القرار على جثث الأبرياء. فالإلتحاف بدثار دارفور لحسم قضايا الأختلاف بين فصائل الأنقاذ الآن ليس هو بجديد. ففي أحداث الفاشر في سبتمبر 2000 إبان الخلاف بين البشير والترابي, أحرقت في هذه المظاهرات العديد من المبان الحكومية وأصيب العديد من المواطنين و أحرق أرشيف الولاية الأعلامي. وعين هذا المسلسل في جعل أقليم دارفور ضيعة "رخيصة" لحسم قضايا الانقاذ بفئاته المتصارعة, لهو خراب لكل الأقليم, والمؤسف أن فعاليات هذا التنظيم من بعض أبناء الأقليم هم من المشاركين في هذا المخطط, وقد أدى ضعف الخطاب السياسي للحركة بأن الكل الآن يزعم بأنه وراء هذه الأحداث. إن هذا الإدعاء هو النتاج المنطقي الحتمي في حالة غياب وضعف الخطاب السياسي لحركة تحرير السودان. فهذه الفجوة الاعلامية قد دفعت بالكثيرين لتوفيرها. ففي حال غياب الخط السياسي الناضج المرئي بأسم الحركة, تصبح دعاوي الآخرين لها الغلبة ويظل التساؤل قائماً عن كنه الخط السياسي للحركة, وليس مجرد بيانات صحافية عما يجري في مناطق العمليات الحربية. فأن كانت حقيقة أن جنود "الفدرالي" و "العدل والمساواة" هي من ضمن الفعاليات المسلحة؛ ألا يعني هذا بأن مواطن دارفور من حقه أن ينور عن البرنامج السياسي الجامع لهذه الفئات, وضرورة توحيد الواجهة الأعلامية؟

نحو رفع الظلم وتحسين الخطاب:

أن ظهور حركة تحرير السودان إلى السطح لم يتم عن فراغ, والمتتبع لسياسة العنف السائدة في الأقليم منذ الثمانينات يرى أنها نتيجة حتمية الظهور مع التزايد المتسارع للأحداث دولياً وإقليمياً. فأحداث دارفور لا يمكن بالطبع عزلها عما جري ويجري في تشاد وللحكومتين السودانية والليبية كل الدور في تنصيب وعزل من تريد من حكامها؛ ولا أيضاً يمكن أغفال التركيبة الأثنية في تشاد وصراعاتها القبلية خاصة مع قبائل ذات وشائج لها في دارفور, ولا يمكن أيضاً التقليل من إنعكاسات تدفق السلاح الناري وبكثافة في المنطقة متاجرة وتسليحاً مما أدي لتفشي سياسة العنف كخيار أول لحسم القضايا, كما أبتلي الأقليم بظهور تنظيمات تعمل في العلن, أحادية, مستعدية للآخر, إحتضنتها الحكومات المتعاقبة لمقاربة خطابها العروبي بمشروعها "الحضاري".  كل هذا إضافة ألي الظروف البيئية المتغيرة ونزوح مجموعات الرحل لمناطق الزراع المستقرين, و التخلف الإقتصادي  المزري وغياب الدولة في الأيفاء بألتزاماتها تجاه أكثر الأقاليم كثافة سكانية. وأزمة دارفور هي أيضاً أزمة السودان كله في سيادة ذهنية لا تعترف بالآخر سياسياً وثقافياً. وفي هذا لا يمكن بحالٍ من الأحوال إعفاء الحكومة عن مغبة مايحدث وحادث الآن في دارفور فهي برعونة سياستها دفعت ببعض مواطنيها لاشهار السلاح في وجهها لمواجهة كيدها في إقليمهم, ويدفع الآن سكانها ثمن عدم "رضاء" الحكومة عليهم. وفي خضم هذه الحالة والتسارع في حرب الحكومة, كرد فعل مشروع, لم تأخذ الحركة في الحسبان "خبث" الحكومة وإنعكاس ذلك على سير المعارك وأمن المنطقة. فعسكرياً هل الأجدى محاربة الحكومة بشن حرب عصابات عليها أم الأجدى توفير السلاح للآمنيين للدفاع عن أنفسهم؛أم الأثنين معاً؟ إن تصوير الحكومة للعمل المسلح في دارفور بأنه ساعٍ لأسقاط نظامها, وليس للذود عن سكان دارفور, قد أعطتها كل المسوغات التي تريدها للعمل في دحر هذه الحركة رغم وصمها بأنها حركة "قطاع طرق وعصابات نهب مسلح".

فالحكومة الآن قد أفلحت في مرماها, أكثر من الحركة, في تمرير مخططها الرامي لتفتيت وحدة النسيج الإجتماعي للإقليم بتأجيج الصراع القبلي بتدمير وقتل وحرق. كل هذا من تنظيم يمثل أبناء الأقليم فية رصيداً عالياً على مستوي القمة والقاعدة؛ فإقليمهم الآن يدمر من ذات التنظيم الذين هم حماته والذائدين عنه, وليس بأيدي حركة تحرير السودان أو الجنجويد. والحديث الجاري الآن عن الجنجويد والنظر إليهم كالطوفان المدمر لكل ما هو جميل في دارفور, لفيه الكثير من قصر النظر في رصد الأيادي الخفية وراء هذا الصراع. ففي زمان كهذا ليس بالأمر العسير وجود ضعاف النفوس ممن يمكن إغداق المال والسلاح عليهم لتنفيذ ما تخجل من القيام به علانية. وفي تاريخ السودان القديم والحديث, هنالك الكثير من حالات "الجنجويد" إستخدمتهم السلطات الحاكمة في جيوشها النظامية وكقوات صديقة للحرب عنها بالوكالة مجندة إياهم من شتى أجناس وبقاع السودان. فالجنجويد نجدهم في جيش إسماعيل باشا الغازي عام 1821, وفي صفوف الجيش الأنجليزي-المصري في حربه ضد القوات المهدوية, وليس أدلَ على ذلك من صور مقتل الخليفة في أم دبيكرات وهي مصحوبة بصور لجنود سودانيين (سود البشرة)؛ ونجد الجنجويد أيضاً ضمن القوات الإنجليزية الفاتحة لدارفور عام 1916, وفي صور مقتل سلطانها بعد عام؛ وذات القوات كانت موجودة يوم قضت على حركة السحيني عام 1921. و حديثاً نجد "الجنجويد" ضمن القوات العربية التي جندتها حكومات سودانية متعاقبة للحرب عنها في جنوب السودان, كما نجد الجنجويد ممثلة في أفراد من بعض القبائل الجنوبية الأصل, جندتهم الحكومة لمحاربة الحركة الشعبية. فجنجويد دارفور اليوم هم أمتداد لذلك الأرث, غير الناصع, للدولة حينما تلجأ في لحظات ضعفها لخلق كيانات موازية لجيشها النظامي للحرب عنها بالوكالة. أن النظر إلي جنجويد اليوم كأداة لما يسمى ب"التجمع العربي" ونسبتهم اليه, لفيه الكثير من التسرع وقصور النظر إن كان الداع أساساً هو خلق مشروع يستوعب جميع مواطني دارفور. إن ما يجري الآن من إحتراب قبلي-حكومي-سياسي يسعى بعض المفتونين بإستخدامه عرقياً , ليس هو بالأمر الفريد. فهنالك تجارب مشابهة في التاريخ المعاصر لخطل وإنهزام مثل هذه المشاريع كما في كوسوفو, رواندا, بوروندي – حيث تم مؤقتاً دحر مشروع التماذج العرقي مصاهرة وثقافة أمام الطامعين سياسياً بإستخدام العرقية كأداة لتحقيق مكاسب سياسية. أن مايجري الآن من محاكمات دولية لمهندسي مثل هذه السياسات في محاكم العدل الدولية في بلجيكا وتنزانيا من ملوسوفيتش وخلافه,  نرجو أن تكون هي المرجعية لكل ساع لأستغلال العرق كقيمة عند الصراع. فالحكومة الآن قد سعت وبمكر في إدغام هذا البعد في الصراع المسلح الجاري, ولن يتسنى لها تنفيذ هذا المخطط إن تدارك أبناء الإقليم, بإختلاف أعراقهم بأن قوتهم في وحدتهم. أن أحتواء السلطات الحكومية لمحسوبي دعاه النقاء العرقي, وهي أقلية ناشزة, أياً كانت, وعدم إدانة مثل هذا التوجه لفيه الكثير من الخطورة,  ليس فقط لمستقبل أقليم معين, ولكن للسودان عامة وأفريقيا قاطبة.  

وبما أن المعارك الآن قد طالت جميع مواطني دارفور, إما كضحايا مباشرين لهذه الحرب من قتل وتشريد, أو كمتضررين ثانويين من جريرة أعمال البعض على الكل, وهم منه براء؛ فليس هنالك من منتصر في هذه الحرب. وعليه,  فإن كانت النية هي صافية في العمل لرفع الظلم والضيم عن كاهل المواطنين فلا بد لأبناء الأقليم من الإعتراف بأن أقوالهم, وأفعالهم لها عظيم الأثر في مآل مستقبل دارفور؛ أن تكون أو لا تكون, رغم عبطية هذا الإفتراض؛ فعمار دارفور وخرابها, بأبنائها, رغم كيد الحاقدين.

ولنا عودة.

علي دينار – فيلادلفيا

aadinar@sas.upenn.edu