دار فور: ما لا يقتلنى يقوينى ( 4_4)
بقلم : احمد ضحية
ان ما دفعنا للحديث فى مقالاتنا الثلاث السابقات لهذا المقال . ومقالات أخرى متفرقة على صفحات الصحافة السودانية قبل اكثر من عامين مضيا, يجىء فى اطار محاولاتنا الجادة للإسهام فى حل متناقضات مشكل دارفور , بإضاءة بعض الجوانب التى يتقاضى الكثيرون النظر اليها بجدية سواء كان هؤلاء الكثيرون , من الذين ارتبطت مصالحهم بنظام الخرطوم او النظام نفسه ...ولذلك يجب ان يتم التعامل مع ما كتبنا ونكتب, على اساس ما نقصده تماما دون تاويل وتشويه وتشويش لا يخدم صلب متناقضات المشكل,... فلوقت طويل ظل النظر لمشكل دارفور فى حدود اختصاره, فى اطار النهب المسلح والمشكلات التى تحدث نتيجة اختراق العرب الرحل لمسارات خارج المسارات التى حددت للسير والرعى .. بينما ظلت الاحداث باستمرار تثبت ان مشكل دارفور اكثر تعقيدا من ذلك ... فحجم الخسائر المادية والبشرية الناتجين عن استمرار الصراع المسلح, فى تنام مستمر.. فاذا كان بغرب دارفور فقط فى عام 1998و لفترة لا تزيد عن الشهر هى الفترة من 22/2 وحتى 23/3 قد تم احراق 69 قرية وتشريد 4278 اسرة واحراق 23210 جوال ذرة و15478 جوال فول سودانى و30241جوال لوبيا الى جانب نهب 21 من الابل و57 من الابقار و40 حمارا و265 رأسا من الماعز و1000 من الخراف.. فاذا كانت تلك حصيلة شهر واحد فى 98 وحكومة الخرطوم لم تتدخل بعد بوجهها السافر فى الصراع المسلح, فكيف هو حجم الخسائر الان بعد ان تمت سياسة الارض المحروقة التى انتهجتها الحكومة وراح ضحية لها اكثر من مليون ونصف من اللاجئين على الحدود التشادية غير الذين تمت ابادتهم باكثر الاساليب بشاعة ( السحل ).. لقد ظللنا نكرر باستمرار ان التاكيد على الحدود الموروثة للقبائل والوصول لسلام تام بينها, مع ضخ المال اللازم للتنمية . يسهم فى عملية الاستقرار التى يحلم بها انسان دارفور . ولكن يوما بعد يوم وعلى الرغم من التصريحات الاميريكية حول مشكل دارفور , بان الحل لهذا المشكل سيكون على قرار ميشاكوس ( الاتفاق الاطارى لحل ازمة الشمال / الجنوب ) , الا ان واقع الحال يقول ان نظام الخرطوم ليس لديه الرغبة فى حل هذا المشكل على الاطلاق .. فهو ما بستشف من تصريحات المسئولين الحكوميين غير المسئولة, الى حد التراجع عن الجلوس الى مائدة المفاوضات مع ثوار دارفور , واعلان انه لا مبرر لها لان الحكومة سيطرت على الاوضاع تماما ؟!.. هذه الاكاذيب لا تفعل شيئا سوى زيادة الامر سواء اكثر مما هو عليه فى واقع الامر ... فمشكل دارفور تجاوز وبكل المقاييس. ما كان يوصف به على الدوام, فلم تعد المشكلة هى خلافات قبائل فيما بينها بقدر ما هى مشكلة اقليم تم تهميشه من قبل مركز مستبد وقاهر مع سبق الاصرار والترصد, مشكلة اقليم وظفته الدولة لخدمة اغراضها الايديولوجية واطماعها المادية بدعاوى دينية مبتذلة لم يحدث مثلها فى تاريخ السودان الا ابان ثورة المهدى ..بما يقضى على اى جند وطنى استراتيجى يتعلق بسلام السودان واستقراره, لا سلام دارفور فقط واستقرارها, فدارفور التى اعتراها الشلل التام بسبب الجهل والتخلف والتهميش والسياسات الخاطئة ومصادرة حقوق الانسان وعدم توطين قيم الديموقراطية والمواطنة , بسبب الاستعلاء والهيمنه المركزيين منذ 1956 وبسبب الاستبداد والتعسف وتشظى مؤسسة الدولة منذ 1989 على المستوى الايديولجى السياسى والفكرى وتعاظم الدور الدولى والاقليمى , والانهيارات التى وسمت اجساد القوى السياسية , بما اسهم فى تعميق حالة التشرذم والتفكك التى تسم مجتمعاتنا فى السودان اليوم ,,, الحكومات السودانية المتعاقبة اهملت هذا الاقليم , الغنى بالموارد والسكان , واسهم عدد منها فى تفجير الحرب الاهلية التى اخذت تنفجر بين ان واخر منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى ... حرم انسان دارفور على مر تعاقب الحكومات , من حقه فى التعليم والصحة والخدمات عموما على الرغم من ان الحكومات المتعاقبة , استغلته استغلالا بشعا , كوقود لحربها الدامية فى الجنوب , الى جانب اغراقه فى صراع ( عربى / اسلامى / افريقى ) , لتحقيق اوهام المشروع الاسلاموى الحضارى المزعوم ....
لقد مثل انعدام المصداقية غياب التنمية والحرية والعدل , ارضا خصبة لا نفراط عقد الامن وتصاعده الى حرب اهلية ضارية ,...ولذلك من العسير قراءة مشكل دارفور بمعزل عن المشهد السوداني ككل , الذى هو مشهد مازوم تاريخيا , وتدلل كثرة المبادرات لمعالجة ىمازق الحل السياسى فى السودان وصولا للحل الاميركى الاخير الذى استهل بميشاكوس فى 2002 , على مدى عمق المشكل السودانى ....
وباعتبار ان مشكلة دارفور من الصعب حلها على قرار التجارب الانفصالية فى افريقيا , او بما يعادل دعاوى بعض التيارات الجنوبية الانفصالية , نجد ان اعطائها الاولوية الان اسوة بجبال النوبة والمناطق المهمشة الاخرى , يسهم فى حل المشكل السودانى , بكل تعقيداته وتشعباته , فدارفور بمثابة مفتاح اساسى فى ازمة الشمال /الجنوب التى القت بظلالها على كل المشهد السودانى . وكما ظللنا نكرر دائما, ان وقف الحرب واستعادة الديموقراطية, والالتزام التام بمواثيق حقوق الإنسان, واعادة بناء الدولة السودانية , على اساس بروتكول ميشاكوس مع مراعاة التحفظات حوله , يعتبر كل ذلك مداخلا لا غنى عنها فى سبيل المشروع المدنى فى السودان الديموقراطى الموحد .....
ما سيق لا غنى عنه لمعالجة مازق الحل السياسى , الذى يرضى جميع الاطراف , والذى ظل السودان يعيد انتاجه ( المازق ) منذ عدة عقود وهو شبيه بمازق كثير من دول العالم الثالث , التى فشل بعضها فى الخروج من دوامته بينما نجح بعضها الاخر ........
وفى هذا المازق تنتصب مسالة الصراع الاجتماعى والثقافى كمؤشر اساسى لمازق السودان. وبالاحالة لعبد العزيز حسين الصاوى ( حوارات الهوية والوحدة الوطنية ) انه اذا لاقبلنا الفرضية القائلة, بان قضية التعايش الوطنى هى فى جوهرها , قضية ازمة التطور العامة , ببعديها الديموقراطى التعددى قوميا ودينيا وسياسيا والاقتصادى الاجتماعى لامكن تلمس الصلة بين امكانية تصفية مسببات احتدادها الراهن وجذرها الاعمق . الذى حال دون التعايش والاندماج الطوعى , اذ لم يستلهم تجارب الدول المشابهة , فى تنوعها الثقافى وتبايناتها الحضارية .. ففى ولاية كانورى بنيجيريا حافظت المجموعات السكانية غير البورنوية على بعض الشعور بالتميز حتى بعد ان قادت مجموعة من العوامل السياسية والدينية والتجارية الى اندماجها الطوعى فى ثقافة البورنو وهويتهم القومية وهو نفس ما حدث تقريبا فى حالة الالور alur بيوغندا وشمال شرق زائير حيث تسببت ظروف تاريخية متنوعة فى استيعابهم الثقافى لجماعات مختلفة عنهم . لكن ذلك لم يحدث فى السودان الى حد كبير بسبب فشل الثقافة الاسلامو عربية وعغجزها عن اداء دورها المتعين فيها .. فظل الملمح الاكثر اهمية للحرب الاهلية فى السودان هو طبيعتها متعددة الابعاد , اضافة الى حقيقة ان استمرارها هو نتاج عوامل خارجية وداخلية معا ، وعلاوة على ذلك لم يعد الصراع يقتصر على اقليم او فئة واحدة من السكان , فهو يمر عبر مجموعات مصالح عرقية واجتماعية ، عبر اقاليم عدة , فعلى سبيل المثال ومن زاوية تركيبة المجموعات المقاتلة فى حالة الجنوب مثلا نجد ان هناك جنوبيون فى القوات الحكومية . كما ان هناك شماليون فى قوات الحركة الشعبية spla ولكن باعداد قليلة جدا, ونتيجة لضغوطات ! وغنى عن القول ان تاثير الحرب يذهب الى ما وراء تاثير البنيات الاقتصادية والسياسية والثقافية كما تؤكد دكتورة سامية النقر ودكتور عبد الغفار احمد ( السودان : مستقبل التنمية ) واللذان يشيران ايضا الى تفاقم الضغط البيئى على الارض فى غرب السودان ( دارفور ) نتيجة للحرب التشادية , اذ ذاد تدفق اللاجئين التشاديين من كثافة الانسان والحيوان الى ابعد مما تحتمل الارض , مما يعنى ان الهجرة التقليدية لبعض المجموعات الرعوية من كردفان مثل الكبابيش الى هذا الاقليم. قد توقفت , واجبر الضغط الذى خلقه تدهور الارض العديد من المجموعات الى التحرك جنوبا الى مناطق ذات امكانات اعلا مما يزيد الضغط فى هذه المناطق ويؤدى الى المواجهة المسلحة , بين مستخدمى الارض التقليديين والقادمين الجدد . وقد قاد هذا بدوره الى ظهور مجموعات منظمة ومسلحة من قطاع الطرق .. وترتب على الاحساس بعدم الامن المتزايد فى الريف فى دارفور حيث تغوضت الحياة الريفية بسبب السلب والصراعات البين عرقية , ترتب على كل ذلك دمار للطبيعة والممتلكات والانسان ......
لكن ما الذى جعل بلادنا حتى اللحظة الراهنة غير قادرة على التعايش وعاجزة ( قبائلها ) عن القبول ببعضها وفاشلة فى احداث اى تنمية فى دارفور . على الرغم من ان هذه هى المداخل المهمة لاستيعاب طبيعة وحجم المشكلة .....
اذن الحديث عن الحالة الدارفورية فى اطار المشهد السودانى يقتضى ايضا الحديث عن تحديات الديموقراطية . التى هى تحديات السلام والتنمية والتى هى التحديات نفسها التى تواجه المشروع المدنى فى السودان وبناء الدولة السودانية الحديثة . ومما لا شك فيه ان الديموقراطية كمفهوم تم تطبيقه على الحالة السودانية . ووجه بتحديات عظيمة نتيجة الامية والجهل والتخلف . ولا شك ان التناقض الاثنى يلعب دورا كبيرا فى عدم انجاز هذه الدولة ومثل تناقضا اساسيا . لكن هناك صعوبة فى الجمع بين مفهومين غير منسجمين . سيادة احدهما تلغى الاخر . اذا جاز التعبير , هما : مفهومى ( الديموقراطية ) و ( الاثنية ) ............
فالديموقراطية بطريقة ما تمثل اعلا مستويات تصريف الحياة السياسية والمدنية وتتناقض مع الاثنية لكون الاخيرة تنهض فى القبيلة ( العرق ) الذى هو نقيض المدنية باعراقها المختلفة . ومع ذلك اثبتت تجربة الغرب ( الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ....الخ ) فعالية الديموقراطية فى ضبط مجتمعات متعددة دينيا ومتباينة ثقافيا وحضاريا بل استطاعت ان تجعل من هذا التعدد والتنوع والتباين مظهرا من مظاهر القوة لهذه المجتمعات , وقد تبنى السودان الى جانب دول اخرى فى العالم الثالث او النامى مثل الهند وناميبيا وسيلان ولبنان وشيلى واراغواى هذا النوع من الديموقراطية . ورغم ضعفها فى تلك الدول التى اشرنا اليها , الا انها استطاعت ان تحقق قدرا من التماسك . لمجتمعاتها الزاخرة بالمتناقضات لكن فى السودان لم يتحقق اى قدر من التماسك , فتقاتلت الهويات بدلا عن ان تتحاور . لان التجارب الديموقراطية فى السودان ( 1956_195 ، (64_69) ، ( 85_ 1989) لم تتحقق فيها الشروط المتعينه فى الديموقراطية الليبرالية .. فالمعنى الابتدائى للديموقراطية هو ان الحكومة يجب ان تاتى عن طريق الراى العام, وتكون مسئولة امامه باستمرار, حتى تختبر على الدوام مدى تمثيلها لهذا الراى العام . وحتى يمكن معرفة ادعاء ها كتعبير عن ارادة عامة. لا يزال سارى المفعول.......
لكن فى التجارب الثلاث ظل الراى العام باستمرار ضحية للخداع والبيع والشراء (التصويت) الى جانب ان التصويت يتم وفقا لولاءات اثنية ولا يتم وفقا لبرنامج محدد يقدمه المرشحون للناخبين . بالتالى يصعب توصيف الراى العام الذى اتى بالتجارب الديموقراطية الثلاث فى السودان بانه : ( راى عام حر ) و ( علنى ) ولذلك ظلت الحكومات الديموقراطية فى السودان تفقد تاييد الراى العام على الدوام . فتنتشر المظاهرات والاضطرابات . وتنشط المليشيات المسلحة. كذلك من الواضح ان ثمة خلل فى مفهوم الديموقراطية بالنسبة للقوى السياسية والحكومة معا ! .. لا يقل عن الخلل فى مفهوم الديموقراطية بالنسبة للناخبين الذين مارسوا حق التصويت والانتخاب للاتيان بالحكومة وهذا يشكك فى مدى حرية الراى العام. باعتبار ان ذلك شرط اساسى للديموقراطية الليبرالية......
واذا كانت الديموقراطية تعنى راى الاغلبية فى الامور الكبرى التى يختلف عليها بين قطاعات المجتمع فان راى الاغلبية عبر تجارب السودان الثلاث لم يكن يحظى باحترام الاقلية وهو ما اسهم فى الاتيان بانقلابات عسكرية مدعومة بقوى عقائدية او طائفية تمثل اقلية مقابل الحكومة المنتخبة من الشعب الى جانب ان القوى السياسية التى تنتخب, هى بحد ذاتها قوى غير ديموقراطية, لا فى طبيعة تكوينها ولا فيما تطرحه . بالتالى تتخبط وتعجز عن حل مشكل السودان...........
من جهة اخرى لم تكن الحكومات الديموقراطية المنتخبة. تتحرك فى عالم من المؤسسات والشركات الخاصة والتنظيمات المستقلة. والية السوق. بما يشكل نظاما من الضغوط المضادة: الضغوط الاجتماعية والاقتصادية لنشاطات الحكومة.. فالحكومة باستمرار تتدخل فى عمل هذه المؤسسات والشركات والتنظيمات المستقلة. لذلك لم يكن لها دور يذكر فى بلورة القرارات المهمة. كما فى المجتمعات الديموقراطية. فاهمية هذه المؤسسات والتنظيمات تكمن فى انها تقلص من دور الحكومة. وهذا ديموقراطيا يعنى ان الحقوق الفردية قد تمت كفالتها وتأمينها. فهذه المؤسسات لا تترك الحكومة تنفرد باتخاذ القرارات الخاصة بادارة الدولة. وتجبرها على ان تعمل فقط على هامش النشاط الاقتصادى والاجتماعي. كذلك لا تستطيع الحكومة التدخل فى نشاط هذه المؤسسات الا وفقا لتبريرات مقنعه لناخبيها ولجماهير الشعب. لكن عمليا حفلت التجارب الديموقراطية الثلاث بتدخلات سافرة وفجه فى مجال حقوق الفرد والحريات الخاصة بالتنظيم اذ تم حل الحزب الشيوعى فى 1966 وطرد نوابه من البرلمان ابان الديموقراطية الثانية واعتقل المثقفين السودانيين المشاركين فى ندوة امبو باثيوبيا 1988 فى فترة الديموقراطية الثالثة كما انه فى فترة الديموقراطية الاولى تم تصفية عشرين دسته من البشر ( مزارعين جودة ) وهكذا ظل القضاء المستقل مغيبا عن دوره فى فترات الديموقراطية التى مورست فيها انتهاكات لحقوق الانسان لا تقل بشاعة عن انتهاكات النظام الاسلاموى الذى اعتلى السلطة منذ 89 ........
وعبر الفترات الثلاث افتقرت التجارب الديموقراطية فى السودان لاحترام المبدا الاساسى الذى تنهض فيه الديموقراطية كمفهوم وممارسة وفى اطار هذا المشهد الماساوى تفجرت مشكلات التنوع الثقافى والتعدد الدينى والتباين الاثنى كرد فعل لانتهاك الحريات والحقوق واهدار الكرامة الإنسانية وابادة الاجناس غير العربية والتمييز العنصري فالبني الاجتماعية فى السودان بتنا قضاتها التاريخية كانت تنتظر محض فتيل ليشتعل كل شىء وهو ما حدث فى دارفور وفاجا الجميع !! ؟.. ...
ما يحدث فى دارفور عندما يقرا فى هذا السياق. نجده ايضا يمثل مظهرا من مظاهر تفاعلات هذه البنى المتمزقة. التى اتخذت تفاعلاتها اشكالا حادة,,,,,,,,,,,,