المؤتمر الثقافي السوداني

القاهرة -  يوليو ‏1998

 

 

تحت شعار

نحو  بناء  ثقافة  السلام  في  السودان

 

عن الاضطهاد الثقافي : ثقافة المركز وثقافة الهامش

( غرب السودان نموذجاً )

 

إعداد:

عالم عباس محمد نور


 

( إن المشكل السوداني مشكل ثقافي في تجليا ته المختلفة على المستوى السياسي ومستوى الدولة ومستوى الصراع الاجتماعي بين المركز والأطراف . لذا فإن الطرح الأفقي والرأسي لهذا المشكل كفيل بأن يقدم إجابات جذرية للأزمة الوطنية الراهنة من خلال استنطاق المسكوت عنه على مستوى الراهن ومستوى التاريخ .)

                                      " ما جاء في توطئة الدعوة المقدمة لهذا المؤتمر "

 

 

( .. .. وفي زعمنا أن مشكل الوحدة الوطنية يعود كله إلى عجز الأنظمة المتعاقبة على حسم قضية الانصهار الوطني حتى يصبح رباط المواطنة هو العروة الوثقى بين أبناء الوطن الواحد . والذي يدعو إلى الانصهار الوطني لابد أن يفترض ابتداءً تعدد الكيانات،  كما لابد له أن يقر بأن الرباط الوطني وحده هو الذي يلم شتات هذه الكيانات ويجعل من أبناء الوطن سودانيين كلهم . منهم العربي ومنهم النوبي ومنهم الزنجي ، وأغلبهم هجين مخضرم . كما منهم  المسلم ومنهم المسيحي ومنهم الوثني . .. )

                       " الدكتور منصور خالد : النخبة السودانية وإدمان الفشل ج/1 ، ص 65 )


 

أهداف الورقـة

 

          هذه محاولة لاستكشاف الذات ، تحاول التفكير بصوت مسموع حول ما يجري ويتواطأ الكثيرون منا بالصمت تجاهه . ولا تزعم العصمة ولا تدعي البراءة ، وتدعو إلى التصويب والتصحيح سواء للنفس أو للغير ،  ولا يكون ذلك إلاّ بمواجهة الواقع والتصارح والتنادي إلى كلمة سواء. وفي هذا الحيز المتاح فإن هذه الورقة تسعى إلى إثبات ودحض.

 

·     وهم الاستعلاء الثقافي لدى المركز ( أهل الشمـال النيلي ).

·     الاضطهاد الثقافي الذي مارسه المركز على الأطراف.

·      دور الهيمنة والانتهازية الثقافية في تكريس التفرقة الوطنية.

·              الغبن الإعلامي والتزوير التاريخي والسطو والتشويه على إسهامات الأطراف

·               وأثر كل ذلك في  تأخير الانصهار القومي وضعضعة الوحدة    الوطنيـة.

·      ثم طرح محاولة للخروج من القمقم.

 

مقدمـة

 

بلد كالسودان، حديث التكوين، متعدد الكيانات ،متنوع الأعراف والثقافات ،هذه الكيانات وجدت نفسها فجأة في ظروف غير مسبوقة، تحاول أن تتعايش وتنصهر في وطن موحد، يتمتع فيه الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات . وعليهم تلمّس مكامن التوحد والانصهار إحياءً وتأكيداً ، والتنبه إلى مزالق الفرقة والشتات يقظةً و تجنباً   ، في سبيل أن تكون أمة  متجانسة.

بعد أربعين عاماً من الاستقلال، هل تحقق شيئاً مما كنا نأمله أم ازداد الأمر سوءً ؟ هل نحن أكثر توحداً وانصهاراً مما كنا قبل الاستقلال أم اتسع الفتق على الراتق فصرنا أكثر فرقة وشتاتاً ؟ 

النظر إلى واقع الحال يغنى عن السؤال.

 

          من مظاهر هذه الخيبة هو تجاهل الاعتراف بهذه الكيانات التي تشكل الوطن وخصوصية تكوينها وافتراض عدم وجودها أو قولبتها أو التعالي عليها أو الوصاية والتحدث بالنيابة عنها ، عن قصد أو عن جهل، ناسين أن السودان في حدوده الحالية مازال حديث التكوين ، وقد كان لمعظم أجزائه كيانات مستقلة ، بل دول ذات سيادة. وما ظهر بوجهه الجغرافي الحالي إلا للمحة من الزمان في عهد المهدية 1881-1899 (ثمانية عشر عاماً) ومنذئذ وإلى الاستقلال عام 1956م تحت نير الاستعمار ، مقهوراً بكل كياناته المختلفة ، شعوبا وقبائل. فإذا افترضنا بعد الاستقلال أن هذا الكيان وطناً واحداً ، وفي ذهننا التاريخ كله لهذا الوطن المفترض ، فماذا فعلنا لترسيخه كوطن وجمعه وتكوينه دون أن يحس أي كيان بالغبن أو القهر ؟ ماذا فعلنا لنعرف أنفسنا أولاً، ونحترمها ثانياً ،ونتعامل معاً وفق هذه المعرفة والاحترام ثالثاً ؟

فالعلة كما تبدو هي معرفية ثقافية في المقام الأول ، وتتجلى هذه العلة واضحة كأوضح ما تكون خاصة في تعامل المركز ( الجغرافي ) بالهامش ( الأطراف )، حيث يتقمص المركز دائماً الشخصية المهيمنة التي تملي إرادتها ،( وبالتالي ثقافتها )، على الأطراف الخاضعة ، ذهنية فرعون في قوله : " ما علمت لكم من إلهٍ غيري .." الموروثة من العقلية التركية المصرية الإنجليزية باعتبارها سنوات الاحتلال والقهر والتي لم تفلح ورثتهم من التخلص منها  بعد.

 

وبهذه الذهنية فإن الثقافة هي ثقافة المركز ، وعلى الأطراف السمع والطاعة. واللسان لسان المركز ، فإذ يغنّي المركز فلابد أن ترقص الأطراف ، حتى وإن كان الغناء نشازاً . يتحدث المركز عن الثقافة السودانية ، وما هي إلاً ثقافة أحادية الجانب، لبعض أقوامٍ ، إن تعدهم قليلون ، وفقراء فيما يعطون ، يهيمنون على مقاليد الأمر وينتحلون تراث غيرهم فيشوّهونه ، وتسمع وترى عجباً ، فهم يسرقون لسانك ، إن أخطئوا هم أخذتهم العزة بالإثم ، وأن سمعوا منك غير ما ألفوا سخروا منك ، يعدون محاسنك عيوباً ، فإن تململت نظروا إليك شزراً وإن قلت ، ألقموك حجراً وإن ثرت شتموك بالعنصرية والشعوبية وكل عبارات الزجر والقهر. فإذا كنت كزرقاء اليمامة ، ترى الخطر الداهم ولديك مفاتيح الخلاص ، جابهتك الذهنيـة الفرعونيـة " ما أريكم إلاً ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " وإن كان سبيل الرشد الذي يزعمون هو الهلاك عينه !!

وسنحاول من خلال هذا المدخل الثقافي ، النظر في واقع الحال .

 

ما هي الثقافـة

 

يمكن  الاقتراب من مفهوم الثقافة عند المثقفين السودانيين ،أهل المركز،

والذين أعطوا لأنفسهم حق الحل والعقد ، فقد  أورد الأستاذ زين العابدين صالح ، في مقال له بجريدة الخرطوم نقلاً عن د. يوسف الحوراني " : الموسوعات العالمية تكتفي في تعريفات الثقافة بأنها أهم ما يميز المجتمع الإنساني عن التجمعات الحيوانية،  وأنها لغة وتراث وسلوك واتجاهات تنتقل إلى الأجيال المتعاقبة ، وهذا يعنى أنها عملية بناء متواصل للإنسان خلال التاريخ". ويقول د. معن خليل عمر ( تعنى الثقافة طريقة عيش متميزة لأفراد مجتمع معين ،تتضمن هذه الطريقة مجموعة أنماط سلوكية ناتجة عن توجهات وتحديدات وقيم ومعايير وأعراف ودين مجتمع وما ينتجه الإنسان من مبتكرات مادية ).[1]

 

ويقول الأستاذ صلاح الدين فرج الله ، وهو يتحدث في الندوة الأولى للثقافة السودانية أغسطس / سبتمبر 94 ( أن الثقافة ما هي إلا وسيلة إحداث تغيير في الواقع البيئي . وهذا يتطلب وضوح المنهج واتباع الشروط الضرورية ، وإن مصادر الطاقة أهمها البيئة الطبيعية ثم البيئة الاجتماعية والإقرار بالعرفية مادمنا نتحدث عن الثقافة السودانية )[2]. ويقول الأستاذ محمد أحمد محجوب : " وكل ثقافة تتأثر بالبيئة تأثراً واضحاً ومباشراً لأننا إذا قلنا إن البيئة هي مجموع الأفراد الذين يعيشون في صعيد واحد ومجموع ما يحيط بهم ، رأينا جليا أن الأشخاص يؤثر بعضهم في بعض ويؤثر عليهم جميعا ما يحيط بهم ،وإذا علمنا أن الثقافة هي طريق الحياة المثلى وأسلوبها والسعي وراء الكمال ، اتضح أنها تعني طريق حياة أولئك الأفراد وأسلوب عيشهم وتساميهم نحو الكمال  ، ومادام أولئك الأفراد قد تأثر بعضهم بالبعض وقد أثر عليهم ما يحيط بهم ، فكذلك الثقافة متأثرة بأولئك الأفراد سائرة على قدر مطامعهم وتخيلاتهم فهي متأثرة بالبيئة تكاد تكون خاضعة لها غير أنها لا تفشل في أن تعمل بدورها للتسامي بتلك البيئة وتحسين ما فيها من حسن "[3]

 

مما أوردنا أعلاه فثمة اتفاق على أن الثقافة هي تراث بيئة معينة واتجاهات أو توجهات أنتجت أنماطاً سلوكية معينة ، وهي عملية دينامية متغيرة ومتنامية ، تتطور بقدرة حركة الوعي ، والإنتاج المعرفي وبالتالي يجب أن يؤثر هذا التغيير والتحولات الاجتماعية على البيئة الفكرية للمثقفين.[4]

 

وربما يبدو ، ولو إلى حين،أن المثقف السوداني - مجرداً من السياسي في فهمه الضيق الممارس - قد أدرك بيئة بلده ذات التنوع والاختلاف ،وتعدد كياناته ، وسعى ( ولو على الصعيد النظري ) في تفهم هذا الاختلاف والتنوع والخصوصية ودعا إلى التعامل معها بإيجابية لا لتتنافر وتتعارض ،ولكن لتتناسق وتتآلف، وما أكثر ما حذّر من الفهم السياسي القاصر ودوره في الهدم والتقويض " كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً .. ) .

ولقد نوقشت هذه المسألة في منتديات ومؤتمرات مختلفة منذ قبل الاستقلال ومنذ مؤتمر الخريجين ، و مؤخرا ، فهذه بعض توصيات الندوة  الأولى للثقافة السودانية دور التعدد والتنوع في إثراء وتنمية الثقافة القومية 29/8-1/9/1994م    أم درمان.[5]

·        أن الرؤية السياسية للثقافة أضرت بتطور العمل الثقافي ولابد من تحرير الثقافة من دواعي العمل السياسي.

·        أن دراسة الثقافة السودانية دراسة علمية تساعد في معرفتنا على العناصر المكونة لأنماط تلك الدراسة.

·   توصي الندوة بأن تنوع وتعدد أنماط الثقافات الفرعية في بلادنا يعتبر مؤشراً لثراء الثقافة السودانية ومن ثم لابد من العناية بدراسة الخصائص الثقافية للجماعات والكيانات الثقافية السودانية.

·   ترى الندوة أن الإقرار بدور الثقافات الفرعية في السودان يتطلب أن ينظر إليها كمكوّن له دوره الفاعل في إثراء الثقافة القومية في بوتقة انصهار للعناصر الثقافية التي تشكلت منها.

·   تؤكد الندوة على الدور الفاعل للثقافة في المجتمع السوداني كمجتمع متعدد الأعراق والأعراف وأن وظيفة الثقافة في مجتمعنا تتحدد من خلال رؤية شمولية تمازج بين الأصل الأفريقي والانتماء العربي والإسلامي.

 

وبالرغم من إيجابية هذه التوصيات واعترافها وتفهمها للعناصر المكونة للثقافة السودانية إلاُ أن المتأمل فيها لا تفوته نظرة ثقافة المركز المتعالية على بقية الثقافات وذلك حين تقول " أنماط الثقافات الفرعية " مثلاً ( ما هي الثقافية الأصلية ؟ ! )

و" الثقافات الفرعية ينظر إليها كمكون له دوره الفاعل .. الخ" ، "الإقرار بدور الثقافة الفرعية "  .. ثم أنظر القول ".. رؤية شمولية تمازج الأصل الأفريقي والانتماء .." إذن فالاعتراف بأن الأصل أفريقي ، ثم يأتي الانتماء . فالقول بالأصل الأفريقي يقتضي السير إلى نهاية الشوط ، فإن لم تكن ثقافة الأصل الأفريقي هي الثقافة  الأصل فينبغي أن تكون مساوية ، على الأقل ، مع ثقافة الانتماء في التسليم والاعتراف . وفي كل الأحوال فهي ليست فرعية أو جانبية أو أخرى . ومرة أخرى أيضاً ، فهذه تعكس ذهنية ثقافة المركز والمتأرجحة في هويتها وتعاليها وتحاول صياغة هذا الفهم المتأرجح وتعميمه على الأطراف وكل الوطن.

هذا من أمر الثقافة ومفهومها بصورة مختصرة لدى المركز ، على أن هذا الذي ذكرنا إنما هو مفهوم على صعيد التنظير ،( على ما فيه من تناقض ) ، وهو يبدو على قصوره إيجابياً باعتباره مفهوما قابلا للتطوير. ولكن عند النظر إلى سلوك هؤلاء المثقفين على الجانب التطبيقي فإن الأمر يكشف عن قصور شديد و"شيزوفرانيا"       مرعبة على بساط الواقع ، من قبل مثقفي المركز كما سنبين لاحقاً.


 

المركز والهامش :

 

ما هو المركز وما هو الهـامش ؟

 

          المركز الذي نعنيه هو ما يمثله الخرطوم ويشمل الشمال والوسط النيلي ، وأما الهامش فيتمثل في الأجزاء الأخرى خارج هذه الدائرة ، أي الشرق والجنوب والغرب. على أن بعضهم يضم الشرق إلى الشمال والوسط النيلي. إذ يقول الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد : " خلال ستين عاما ًمن الاحتلال الإنجليزي المصري تمظهرت الأشكال الثلاثة كتعبير عن عناصر التركيب الجدلي في إطار الدائرة السودانية.. القوى النيلية الشمالية والوسطية وقوى الشرق .. أصبحت قوى ( وحدة وادي النيل ) والقوى الجنوبية الاستوائية ، أصبحت قوى (الجنوب المتميزة عن الشمال وأحزابه ذات الأهداف المتماثلة ). والقوى السودانية الغربية .. أصبحت قوى ( السودان للسودانيين )[6].. الخ ، ويستطرد الكاتب فيقول :" وحين نمضي إلى اعمق من ذلك نجد أن وحدة وادي النيل لم تكن إلاُ ذلك الاستلاب المصري القديم لشمال السودان ووسطه وشرقه ، وأن دعوة السودان للسودانيين ليست سوى التعبير عن روح العزلة الاجتماعية والفكرية في غرب السودان ، وأن حركات الجنوب ليست سوى ذلك الاستلاب الإفريقي الاستوائي لقبائل الجنوب " [7]

 

          قد يرى البعض أن الشرق من الأطراف والمناطق ( المهمشة ثقافياً ) وله خصائصه التي تميزه عن ثقافة المركز. وعلى كل حال فإني لا أتناول في هذه الورقة الشرق ولا الجنوب ، وبحكم معرفتي المحدودة فإنني أكتفي بغرب السودان نموذجاً ، وذلك لما يأتي :

 

·   لا يتسع الحيز لاستعراض ثقافات الشرق والجنوب وعلاقتها بالمركز ، كما أني لست مؤهلاً بما يكفي للكتابة عن الشرق ، وأمُا الجنوب فأمره مع المركز ما يزال يبحث تحت ظلال القنا ووقع السيوف.

·   غرب السودان هو أكثر الأماكن حدة في النزاع مع المركز على المستوى الثقافي، إلى درجة تقسيم السودان كله إلى" أولاد البلد " و "أولاد الغرب"  و بينهما ما صنع الحداد .[8] وما تزال الريبة تسود العلاقة بينهما في الماضي والحاضر.

·        طبيعة هذه العلاقة مع المركز تشكل نموذجاً في عمومته يمكن تطبيقه على ثقافات المناطق المهمشـة.

 


السودان : سكان النيل وسكـان الغرب

 

حقائق للتاريخ :

 

          إذا كنا سنتحدث عن السودان وحدوده الحالية ،أي منذ استقلاله عام 1956م ، فينبغي أن تتذكر أن الاسم والشكل الجغرافي يختلفان عن السنوات قبل عام 56 اختلافاً جديراً بالملاحظة والأخذ في الحسبان . خاصة عند الحديث عن أثنيته وثقافته ، فالسودان الذي عرفه العرب قديماً كان يمتد بما يشمل كل البلاد جنوب الصحراء الكبرى ، يمتد ما بين المحيط الأطلسي غرباً إلى الهندي شرقاً،  وما تواضعنا على تسميته حالياً بالسودان إنما كان يعرف إما بالسودان الشرقي، أو السودان النيلي . علماً بأن هنالك السودان الأوسط ، والسودان الغربي. وقبل الغزو التركي فإن مملكة الفونج

- العبدلاب ( 1504 إلى 1821م )  وهو جزء من السودان الشرقي لم تتجاوز حدودها الشريط النيلي ما بين الشلال الثالث شمالاً إلى "فازوغلى"جنوباً. يجاورها غرباً ، ممالك مستقلة تماماً عنها هي مملكة تقلي والمسبعات ومملكة الفور( 1445 1874 م) إن الحكم التركي المصري الذي جثم على أهل الشمال النيلي ستين عاماً وقضى على مملكة سنار لم يفلح في إخضاع سلطنة دار فور إلا بعد 53 عاماً . أي أن الاستعمار التركي لم يستقر فيها لأكثر من سبعة أعوام ، منها ثلاثة أعوام في ثورة مستمرة سميت بانتفاضة هارون عام (1877 1880م) وكما أورد الدكتور حسن احمد إبراهيم :( رغم أن الفور قد هزموا عسكرياً عام 1874م وضمت للإدارة المصرية إلا أنهم لم يقبلوا الخضوع لحكم الغزاة . وفي عام 1877م بايع الفور الأمير هارون سلطاناً عليهم وثاروا ثورة عنيفة استمرت لمدة ثلاث سنين ، حاصروا الفاشر نفسها ولم ينجها إلا نجدة من الخرطوم بقيادة "غردون " نفسه في مايو 1877 م، ثم تجددت الثورة مما اضطر "غوردون" للعودة مرة أخرى حيث رأى الأحوال لا تستقر في دارفور إلاُ بتولية أحد أبنائها السلطة نيابة عن الحكومة.. [9]

 

وإذا استثنينا ، مؤقتاً ، الثورة المهدية ( باعتبارها ثورة وطنية ) فإن الحكم الثنائي الذي جثم على أهل الشمال النيلي من 1899 1956م لم يفلح في إخضاع دارفور إلاُ عام 1916م أي بعد سبعة عشر عاماً من دخوله السودان ، فإذا نظرنا إلى السنوات التي رزح فيها البلاد تحت وطأة الاستعمار ، فسنجد أن الشمال النيلي (المركز ) قد ابتلى بمائة وواحد وعشرين عاماً مقابل أربعة وأربعين عاماً في دارفور ( الأطراف ) ولهذا الأمر دلالاته في الانصهار القومي، والتكوين الثقافي لكلا البعدين.

 ثمة حقيقة تاريخية أخرى لها دلالتها ويجب ألاُ تغيب عن الذهن عند مناقشة الانصهار والوحدة الوطنية . ذلك إنه لم يحدث منذ القرن الخامس عشر ، بل قبله فيما نعلم ، أن استطاع الشمال النيلي التوسع غرباً بأبعد من حدود مملكة تقلي وبالكاد المسبعات، في حين أن سلطنة الفور كان يحدها النيل شرقاً ، كما قد كان في عهد السلطان تيراب (1768 1787م) حيث هزم العبدلاب واغتنم نحاسهم  المسمى (المنصورة) وكما أورد نعوم شقير " وقد اتسعت مملكة الفور في أيامه اتساعاً لم نر مثله قبل ولا بعد فكان حدها من الشمال بئر النترون في الصحراء الكبرى ومن الجنوب بحر الغزال ومن الشرق بحر النيل ومن الغرب مضيق ترجه وهو مضيق فاصل بينها وبين ودّاي ، كان طولها مسيرة ثلاثة أشهر على القوافل وعرضها مسيرة شهرين وقد بنى السلطان تيراب سوراً من الطوب في أم درمان لا تزال آثاره ظاهرة هناك إلى اليوم". [10]

 

          وهكذا يتبين مما ذكر أعلاه أن السودان الذي نتحدث باسمه هو في واقع الأمر حديث التكوين ، هش البناء ، وليس كيانا واحداً متجانساً ، بل عدة كيانات وصلت إلى درجة الاقتتال فيما بينها في الماضي والحاضر، ووجودها الجغرافي الراهن أشبه بالمصادفة إن لم تكن هي عينها.

 

 

 

 

أهل الغرب

          من المفيد للتاريخ أن نعرف لمصلحة الوطن هذا الغرب تاريخاً وحضارة، إذا قدر لنا أن نتحدث عن هذا السودان ، ولكن ما هو هذا السودان ؟

يقول عنه أحد الباحثين السودانيين الجادين ( السودان بلد جغرافيته السياسية صناعة خارجية أكثر مما هو صناعة داخلية ) [11].

          إن ممالك الفور تمتد بتراثها وتاريخها الإسلامي على ما يزيد عن أربعة قرون (1445 1874 " ن. شقير ج2، ص 113 " ) أي بما يزيد بقرن كامل عن مملكة  (الفونج - العبدلاب) (1504 1821) وتوسعت شرقاً وشمالاً حتى النيل ( أم درمان وعطبرة ).  ما قدر لها أن تظل كل هذه القرون ما لم يكن لها مقومات البقاء . وتتجلّى هذه المقومات في ثقافتها ومعتقداتها ،وتجارتها واتصالها بما حولها ،وتعليمها ومؤسساتها، وكل ما يشكل حضارتها. فهي ليست منعزلة كما يدّعي البعض [12]وليست حديثة الإسلام. كما أن مؤسساتها التعليمية والدستورية ونظام الحكم بها ،بلغت شأواً لم يبلغه (أهل البحر، أو أولاد البلد) منذ أوائل القرن الخامس عشر وإلى اليوم ، من نظام الملك وتسلسل السلطة ، ودستورها " قانون دالي" ،ونظام التقاضي ونظام الاقتصاد ، والأختام والبروتوكولات ،والمراسم التي تنظم لباس وركوب وجلوس السلاطين والمقابلات الرسمية  والمواكب والعرضة ،واختيار الأمراء الذين سيتولون  السلطنة ونظام الجيش والتعليم والمساجد والزراعة والصناعة والتجارة وكل مظاهر الأبهة[13].

( وكانت سلطنة الفور مستقلة عن دول الأرض كلها لا تدفع جزية لأحد ماعدا الحرمين الشريفين فإنها كانت تخدمها بمحمل وصرة كل سنة ،فكان موكب المحمل يأتي إلى مصر ومعه الريش والسمن والصمغ وغيرها من خيرات البلاد فيبيعها ويتم بثمنها نقود الصرة ثم يستطرد الحج إلى الحرمين مع الركب المصري"[14]).

( وكان في دارفور مساجد جمة في كل بلدة مسجد أو أكثر يعلم فيها الكتابة والقرآن. وكان لكل عالم مسجد قرب منزله يصلي به الصلوات الخمس وفي لصقه خلوات للمجاورين يعلم بها العلوم الشرعية وله حاكورة هبة من السلطان يعيش هو وتلامذته من ريعها وكان بعضهم يجيء إلى مصر لتلقي العلوم في الأزهر ولهم فيه رواق معروف برواق دارفور إلى اليوم [15]

( وكان لها تجارة مهمة مع كردفان وبحر الغزال وودّاي ومصر ، وكان يرد منها إلى مصر من 10 15 ألف جمل تحمل الرقيق والسمن والريش والصمغ والتمر الهندي والنحاس والنطرون  وحبة العين والجلود والأقداح الخشبية والأطباق والعسل ، فتعود إلى دارفور ومعها الأنسجة القطنية والحريرية والدبلان والشيت والخام والجوخ والأطلس والملايات الحجازية والبنادق والسيوف والسروج وأنواع الحلي الذهبية والفضة والمرجان والسوميت وغيره من أنواع الخرز المطلوب عندهم) [16].

 

          هذا هو الغرب كما عرفه التاريخ . دولة مؤسسية راسخة واسعة  الأرجاء وصلت حدودها إلى النيل ، ذات تجارة رائجة واتصال بما حولها من الدول، ذات ثراء عريض ، بها مظاهر الأبهة التي تليق بدولة متحضرة معتزة بدينها متصلة بمنابع هذا الدين  ترسل سنوياً محملاً وصرة إلى الحرمين الشريفين عبر مصر ذات مؤسسات تعليمية توفد أبناءها في بعثات علمية إلى مصر بانتظام إلى درجة وجود رواق باسم مملكتها في الأزهر الشريف أعظم جامعات العالم آنذاك .


نظرة الشرق أو أهل الشمال النيلي إلى الغرب

 

          باستثناء فترة المهدية وما بعدها ، فلا يحدثنا التاريخ عن سلبيات تشوب حسن العلاقة  بينهما كأي كيانين مستقلين ، بينهما من العلائق الحميدة في الجوار والإسلام والتجارة المتبادلة . قد تطرأ فترات طارئة من التوتر لسبب أو لآخر ، وتبقى المنطقة التي بينهما (شرق كردفان) إحدى مؤشرات العلاقة . قد يتجاوزها أهل الشمال النيلي توسعاً أو أهل الغرب ، حسب قوة أي منهما ،[17] لكن الثابت تاريخياً بأن الفور اجتاحوا حتى وصلوا أم درمان وعطبرة (السلطان تيراب) . ولكن لم يحدث فيما نعلم أن تجاوز أهل الشمال النيلي غرباً بأقصى من حدود كردفان ، بل يحدثنا التاريخ أن كثيراً من علماء أهل الشمال النيلي قد قصدوا دارفور للتدريس بها ومن ناحية أخرى فإن قصة السلطان محمد الفضل مع أحمد ود عدلان ، آخر وزراء الهمج بسنار ، تدل على حسن العلاقة بين المملكتين فقد أورد نعوم شقير عن كرم السلطان محمد الفضل،  قصة الجعلي الذي التقى باحمد ودعدلان وقبض لجام فرسه وطلب إليه أن يعطيه مما قسم الله ، ولم يمهله إلى أن يعود إلى مقرّه فأعطاه ود عدلان  فروة الجلاد وطلب إليه أن يذهب إلى السلطان محمد الفضل في دارفور فإنه يكرمه . فلما وصل إلى السلطان محمد الفضل وقص قصته ، سلمه إلى أحد وزرائه ليكرمه ،وفي كل يوم يستعيد القصة  فيأمر له بأربعمائة رأس من الرقيق والإبل والبقر والغنم مائة من كل نوع، ولمدة عشرة أيام ، وفي اليوم الحادي عشر قال الجعلي : أطال الله بقاء مولاي وأيده بالنصر .. لقد اغتنيت غناء الأبد ونسيت الذي قاله ودعدلان )[18] .

 

نظرة الغرب إلى الشمال النيلي

 

          جغرافياً ، فإن الغرب ينظر إلى الشمال النيلي باعتباره شرقاً. فهم أهل دار صباح (أو الشرق). ومنذ القدم فإن هذه النظرة عموماً مشوبة بالتقدير والاحترام ،فدار الصباح هي المعبر إلى مكة والمدينة ،حيث تتوق إليها أفئدة المسلمين من كل فج وصوب ،ثم هم في الجوار بحكم الإسلام وحسن العلائق ، وإن حدث ما يعكر صفوها فسرعان ما أمكنهم تجاوز ذلك . وربما يذكر الشرق اجتياح الفور (لدار صباح) حتى أم درمان ( زمن السلطان تيراب)، ولكن ذلك قد تم بدايةً في تعقب السلطان هاشم ملك المسبعات (وابن عم ملك الفور) ،حيث لجأ هاربا إلى (دار صباح ) وحدث ما حدث . بل إن الغرب ، وخاصة في أواسط القرن  التاسع عشر ،كان ينظر إلى دار الصباح بعين الأمل مترقباً  أن يظهر في (دار صباح) من يجدد الدين ،ويقهر الكفر ،ويقضي على الفساد الذي عم الدنيا آنئذ ، سيما وقد تواترت البشارات ،ورسخ في الأفهام نبوءة الشيخ عثمان دانفوديو (1754 1817) بأن يظهر آخر الزمان من جهة الشرق، مهدي يجدّد الدين ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً ،وأوصى اتباعه أن يهاجروا إلى الشرق لمناصرة المهدي وفراراً بدينهم من الكفار .[19]

 

          ذلك من أمر العلاقة ما بين (دار صباح) و(دار غرب) حتى ظهرت المهدية فماذا حدث عندئذ .؟


الدولة المهدية في السودان

 

          لقد اجتاح الغرب ،فيما مضى،  الشرق (أو الشمال النيلي) حتى أم درمان وعطبرة ، بقوة السلاح ، فهل جاء الاجتياح الثقافي والفكري (الإسلامي) وبقوة السلاح  أيضا، مرة أخرى باسم المهدية ؟

 لا ريب أن أهل الشمال النيلي (دار صباح) قد تعاملوا مع المهدية وخاصة بعد وفاة المهدي وفق هذه الذاكرة المتوجسة. وهكذا منذ البداية كانت الريبة والشكوك والخوف وعدم الثقة تشوب العلاقة .

 

بينّا في السابق أن دار صباح (الشمال النيلي) ودار الغرب (دارفور) دولتان ذواتا سيادة ،اجتاحهما الأتراك والمصريون واحدة بعد الأخرى (الأولى عام 1821 والثانية 1874) .الأولى رزحت ستين عاماَ تحت الاستعمار التركي المصري ، والأخرى سبع سنوات منها ثلاثة أعوام في ظل ثورة محلية هي(انتفاضة الأميرهارون) .

 

          إن فكرة المهدية نفسها نابعة من خارج محيط (دار صباح) رغم أنها مكانها ، والفكرة مسيطرة في أذهان أهل الغرب ،ونبعت فيها وغذّتها تطلعاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم ،ظلوا يترقبونها وقد حددوا مكانها في (دار صباح).

والجدير بالتأمل حقاً هو أن الغرب مع تجذر فكرة المهدي بإلحاح عندهم إلا أن أحداً منهم لم يدّعيها ،فهي في أذهانهم رجل من أهل الشرق (دار صباح) ، كما أن أهل (دار صباح) كان بإمكان أي أحد منهم أن يدّعيها، وثمة احتمال كبير بأن يجد  اتباعاً كثيرين من أهل الغرب . لكن لم يحدث أن ادّعاها أحد قبل من دار الصباح ، ربما  لأنها لم تتبلور فيها ولا كان المحيط يتقبلها أو متجذرة فيه ، بل أن المهدي كان يمكن أن يكون (الزبير باشا ) مثلا ! بل أن محمد أحمد بن عبد الله نفسه ربما ما كان يمكن أن يكون المهدي لولا عبد الله التعايشي (هناك مصادر عديدة توضح أن الأصل في انبعاث الفكرة المهدوية وتوظيفها دينياً وسياسياً لا يعود لمحمد أحمد المهدي نفسه بقدر ما يعود للرجل الثاني وهو الخليفة عبد الله التعايشي إذ سبق للأخير أن عرض نفس الفكرة وبذات الأسلوب على قائد سوداني هو (الزبير باشا رحمة) قبل ثماني سنوات من عرضها على محمد أحمد عبد الله ، الذي أعلن نفسه مهدياً بعد لقائه بالتعايشي . وقد كان مأسوراً فقط بمفاهيم الإصلاح الديني والوعظ)[20] يقول د. حسن ابراهيم : (إن فكرة المهدية وصلت إلى السودان عن طريق مصدرين ، خاص وعام :

 

1.      المصادر الإسلامية التي تحدثت عنه وسمعوا من المسلمين خلال اختلاطهم بهم في الحج وعن طريق التجارة .

2.   مصدر خاص : من دولة الفلاني في شمال نيجيريا التي بشر مؤسسها عثمان دانفوديو بقرب ظهور المهدي في (الشروق) أي في السودان وقد انتشرت أقوال زعماء الفولاني عن المهدي المنتظر انتشاراً واسعاً في السودان عن طريق الحجاج الذين وفدوا من شمال نيجيريا في طريقهم إلى مكة )[21].

 

ثمة تفصيل كثير حول هذا الموضوع ،ولعل نعوم شقير قد أفاض (مع تحفظ) لمن أراد الإسهاب. علماً بأن فكرة المهدية وقرب ظهورها في تلك الفترة كانتا ملء القلوب،  والأصقاع كلها متهيئة للأمر . ولكن علينا ملاحظة أنه عندما أعلن المهدي دعوته لم يكن قد انقضى على الحكم التركي المصري في دارفور غير سبع سنوات .. منها ثلاث سنوات لقمع ثورتي هارون وسليمان الزبير)[22].

 

          لقد أصبحت المهدية حقيقة واقعة ،والمهدي (ابن دار صباح) هو رمزها. والرجل الفيصل فيها ،هو عبدالله التعايشي ابن (دار الغرب) بمشايعة أهله أهل البأس والقتال . فتجسدت لديهم الفكرة التي انتظروها طويلاً وتشوقوا إليها في شخص المهدي محمد أحمد ، فآمنوا به وآزروه ،واتبعوه وجاءوا يجاهدون لنصرته وعلى وعي تام بدورهم تجاه المهدي المنتظر .

 

          أما أهل (دار صباح) فقد وصل بهم الأمر إلى حد تكفير المهدي نفسه، بل أن أحد منافسيه الدينيين وهو أستاذه الشيخ محمد الخليفة شريف لم يكتف بتكذيبه بل أباح دمه ، وسمّى صاحبه عبد الله التعايشي بشيطان الأنس كما جاء في قصيدته الطويلة (إن صحت نسبتها له) :

بصحبة شيطان من الجنّ آيس             وشيطان إنس وافقاه على الضرّ

فقال أنا المهدي فقلت له استقم              فهذا مقام في الطريق لمن يدري

فقلت له دع ما نويت فإنه                   وتا لله شر قد يجر إلى الخسر

….

ومن ذلك النادي أبي وابيته                 وأفتيت فيه بالضلال وبالكفر

وإني أذنْتُ الجيش يضربوه إن            أتاهم بما يهواه من واضح النكر[23]

 

          ونغضّ النظر عن التنافس بين أهل (دار صباح) في الزعامات والمشيخات الدينية.. أو غيرها .. وقد يسأل سائل مع الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (هل كان يمكن لمحمد أحمد بن عبدالله أن يدعي المهدية لو كان شيخه القرشي حياً ؟ أو حين لم يلتق بعبد الله ولم يأخذه الأخير إلى كردفان ودارفور ويطلعه على الروح القتالية بقبائل الغرب خلافاً لما كان عليه حال قبائل النيل التي يعيش في كنفها)[24].

 

          وبينما كان الغرب ينظر إلى المهدي باعتباره المنتظر فإن أغلب أهله في الشمال لم ينضموا إليه ويشايعونه إلاّ بعد انتصاراته (تجمّع غرب السودان حول المهدي باعتباره مهدياً منتظراً ..) (لقد انتصر المهدي سياسياً وعسكرياً على مدى السودان كله ماعدا بعض مناطق جنوب السودان . غير أن أولاد القبائل السودانية في النيل الأوسط والشمالي وشرق السودان كله كان أمراً مشكوكاً فيه .. فمعظم هذه القبائل – مع تسليمها في اللحظات الأخيرة بالمهدي ومساهمتها في حصار الخرطوم -لم تكن ميالة للانضواء القطعي في إطار الحركة المهدوية ).[25]

 

          ولما كانت المهدية أساساً منطلقها صوفي فإن هذا الفكر (يحتل في فكر أئمة التصوف النيلي غير ما احتله لدى غيرهم من الذين قالوا بالمهدية واتبعوها في غرب السودان . وقد ظل الفارق حائلاً دون تقبل الفكر الديني النيلي للمهدية كقيادة دينية ، بل تعاملوا معها كقيادة سياسية فتحددت سماتها في حدود البيئة الغربية التي أنتجتها)[26]

 

          ونظرة أخرى للمهدي والمهدية من خلال رؤية أهل (دار صباح) وعدم تقبلهم للمهدي والمهدية ( تأتي صعوبة المعادلة التركيبية المفترضة هنا من أن المهدي لم ينطلق لأسباب موضوعية في أطر المجتمعات النيلية الزراعية علماً بانتمائه لها . فهو من أبناء الشمال وهذا يعني أن المهدي قد اختار طرح مفهومياته حول الدين والإصلاح خارج الدائرة التي تملك حق المحاكمة الحضارية الصحيحة نسبياً في الواقع السوداني لأفكاره ، لم يخترها كقاعدة له وقد كان يدرك أنها تتعامل معه بحكم (الأمر الواقع).) [27]

 

الخليفة المفترى عليه

 

          لا أظن أن شخصية تاريخية لاقت من الظلم والافتراء ومن أبناء وطنه على وجه الخصوص كما لاقت شخصية الخليفة عبدالله التعايشي ، ولا يخدم كثيراً أغراض هذه الورقة إذا تصدينا للدفاع عنه ، إلا إننا نستعرض النزر اليسير جداً للأخذ به كمؤشرات في نظرة أهل (دار صباح) إليه وإلى الغرب عموماً ، ومن سخريات القدرات أنه هو الحاكم السوداني الوحيد الذي أسس الدولة السودانية المعروفة بحدودها الحالية ، حيث أرّخنا بداية لهذا السودان الموحد ، (كدولة سودانية حرة) ، من عام 1880 1899 م وهو عمر الثورة المهدية ، وكان حاكمها الوحيد منذ وفاة المهدي عام 1885 وبهذا فقد رعا الدولة الوليدة لأكثر من أربعة عشر عاماً من أصل ثمانية عشر هو عمر الدولة المهدية . وإذا فهمنا دوافع المؤرخين الذين جاءوا مع الغزاة أو تربوا في كنفهم وفهمنا حنقهم على المهدية وعلى اتباعها ، خشية من تجدد اندلاعها وما يعنى ذلك لهم من قلاقل واضطراب قد تنتهي لا محالة إلى طردهم خارج البلاد التي احتلوها ،  إذا فهمنا ذلك ،فمن الصعب فهم دوافع أبناء ومتعلمي البلاد في النظر إليه بعين المحتل حتى دونما تبصرة أو نظرة منصفة ، أو تحليل علمي عميق ، هل ما يزال في الذهن أن هذا استعمار أو احتلال أولاد الغرب لأهل الشمال والوسط النيلي (أهل دار صباح) هل تمثّل هذه الحركة عودة السلطان تيراب بشكل آخر ، ولكن هذه المرة بإيديولوجية مهدوية ؟! فما أن مات المهدي (ابن دار صباح) ، حتى هُرع المنتفعون إلى الميراث والتركة وبدت الجفوة والبغضاء والتنابز وتعارض المصالح . وإلى يومنا هذا (الجفوة بين أهل النيل [الذين عرفوا باسم أولاد البلد] ، وأهل الغرب جفوة قديمة متجددة ، لعل سببها اعتقاد أهل النيل أنهم أعلا منزلة ومدنية وحضارة من أهل الغرب).[28]

واستمرت المؤامرات .. (جاهر الأشراف بعدائهم للخليفة بعد فتح الأبيض مباشرة عندما طلبوا من المهدي أبعاده من الخلافة وتعيين محمد شريف مكانه لاعتقادهم أنه أحق بها لصلة القرابة التي تربطه بالمهدي] [29]. واستمرت مؤامرات الأشراف عام 1886 بقيادة زقل وعام 1891 حتى انتهى الأمر بسجن الخليفة شريف حتى عام 1896 ، وكأنهم يرددون ما قيل في السابق في ظروف متشابهة .

"رضينا رسول الله إذ كان بيننا            فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر"

 

(لقد تحول عبدالله التعايشي [رجل الثورة ، ابن الغرب] بمحمد أحمد بن عبدالله [ابن دار صباح] من رجل وعظ وتصوف وإصلاح إلى قائد ثورة تحت مظلة (المهدوية) وحدد له مجال تحركه في غرب السودان، وليس الوسط النيلي مسبقاً )[30].

 

          ترى كيف ينظر أهل [دار صباح] مرة أخرى إلى الخليفة عبد الله ؟

          تقول الأستاذة فيفان أمينة ياجي في بحثها القيم عن شخصية الخليفة عبد الله "أما السودانيون فإنهم يحكمون على الخليفة عبد لله بطريقة أخرى ، فالخليفة عبد الله بالنسبة لغالبيتهم مغتصب للسلطة بغير وجه حق ، فبعد موت المهدي كان من المفروض أن يؤول أمر الخلافة إما إلى الخليفة شريف أو إلى أحد أقربائه الأشراف ، ويتم التذكير بصفة خاصة على قسوة الخليفة ويمكن اعتبار مؤلفات مكي شبيكة أفضل مثال لذلك على الرغم من أنها كتبت بعد الخمسينيات) .[31]

 

          وهكذا فالذين أرادوها (كسروية )فاتهم أنها ليست كذلك ، فناصبوها العداء، وهم لم يؤمنوا بها في الأصل، ولم يدافعوا عنها ،ولم يناصروها إلا بعد أن نضجت، في صورة انتهازية بينة ، لا الأشراف ولا غيرهم ، والذين جذّروها في تلك التربة ومهروها بدمهم ، كانوا على استعداد للمضي بها إلى آخر المدى الممكن ، حتى كرري ، حتى إذا جاء الوعد الحق ،والاختبار الحقيقي تبين الحق الصراح والمواقف ولا أتحدث عمن مالأ المحتلّ القادم ،ونصره وكان دليله أوتحالف معه على إسقاط أول دولة سودانية لحماً ودماً ، حتى وإن كان قوامها ووقودها وقادتها وسدنتها أبناء دار الغرب .

وهكذا اتهموا الخليفة بالقسوة ، متناسين طبيعة المرحلة ، والخيانات والمؤامرات التي حاكوها حوله ، من أناس أكبر سهمهم في الثورة أنهم أقرباء المهدي، واتهموه بمحاباة أهله وتقريبهم من مراكز السلطة ، مع أنه كان لهم النصيب الأوفى، فأخذوا بأكثر مما أعطوا ، نسوا أن الأمر قوام دولة ،ونصرة فكرة ومعتقد ،قبل أن تكون مزايا ومغانم. في بلد تتربص أعداؤه به من كل جانب ،ورجل دولة همه وطموحه ، أكبر كثيراً من المتربصين به من بني جنسه .

          وهكذا كالوا الاتهامات له ولكل عشيرته بل ولكل أبناء الغرب ، فاتهموه وأهله بالجهل، والتخلف، والعزلة والمحاباة والقسوة والجلافة واستمر الأمر إلى يومنا هذا في وقت ظننا أننا تجاوزنا ذلك .

 

          لعل أوضح مثال على هذه الذهنية كتاب "السودان المأزق التاريخي .. للأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد " ففي تحليله عن المهدية وعن الخليفة وأهل الغرب يقول  ( .. تجمع غرب السودان حول المهدي باعتباره مهديا منتظرا .. وكان الغرب يعني "جماع الفور والمسبعات وتقلى" وهي تتسم بحداثة إسلامها وانعزالها الإقليمي والجغرافي الطبيعي من مراكز الحضارة المتوسطية.. إضافة إلى تركيبتها الاجتماعية القبلية الأكثر تخلفا في السودان .. ) [32](يقابله في الواقع قبائل عربية التكوين في الغالب الأعم، ونعني تاريخيا تلك الدائرة التي احتواها نشاط العبدلاب ثلاثة قرون قبل التركية .. ثم أن إسلامها تراثي راسخ) [33](ثم أنه هو وليس غيره مصدر الجذب الشعبي ) ص 96 .. ( .. وإذن فالقضية لم تحسم بعد، قضية الفور تقلى المسبعات التي أصبحت مهدية الغرب السودانية .. وقضية (دينج) العائد بعد غياب طويل، والتي أصبحت (أفريقية) ، وقضية (عبد لله جماع) التي أصبحت ختمية اتحادية شقيقة .. تركيبة السودان التاريخية التقليدية) ص 480.

لسنا في مجال الدفاع عن أحد أو نقد أحد، إنما هذه محاولة لقراءة ذهنية مثقفي (دار صباح) ، (المركز ) حول تقويمهم لتجربة السودان الوحيدة في إطار الفهم الوحدوي أو التوحدي، والذي يمثله الخليفة عبد الله وأهله. فكما قد بينا ، فالخليفة لم يحابي أهله إلا اضطرارا ، وحتى لو انتقدنا هذا التصرف فالأجدر كان انتقاده في الرمز نفسه ،القدوة والمثال، وهو المهدي ، فقد أورد الأستاذ محمد أبو القاسم: (كان الشيخ مضوي يرتاب في المهدي، بحكم حصيلته الثقافية الأزهرية، فرأى المهدي على غير ما يستوجب الشرع يخص أقاربه وأحفاده بالغنيمة دون بقية جنده، ورأي منه صمتا عما فعله أنصاره بقافلة تجارية من قتل وسلب للأموال . ورآه يكفّر من ينكر مهديته والإيمان بالمهدي ليس من أركان الإسلام التي يكفر من لا يعتنقها). [34]

يتحدثون عن قسوة الخليفة ولا يتحدثون عن قسوة المهدي مثلا، ( .. لذلك كان حاسما في تكفير من لا يؤمن بمهديته وقد سبق ذكر إعدامه الفوري في غرب السودان للقاضي ميرغني الذي واجهه ببطلان دعوته) ،[35] (وأمر المهدي، بعد فتح الأبيض بقتل اثنين من أعظم أنصاره وهما المنة اسماعيل وعجيل      الجنقاوي ، من كبار مشايخ الرزيقات لمناقشة حصلت بينهما وبين التعايشي) ج3 نعوم شقير ص 171) . هم يلتمسون للمهدي وحده - ونحن لهما معا- المعاذير لحرج المرحلة، وقهر الظروف،والاضطرار إلى ذلك التصرف، كما لا يذكرون محاباة المهدي لأهله وتغاضيه عن اخطائهم ألأنه من( دار صباح؟) مع أن المهدي لو مكث في الحكم وواجه الظروف التي واجهها الخليفة عبد الله ، ما  كان تصرفه أقل حزما أو ليّنا، وإلا لم يك رجل دولة !

فأما الغرب وحضارته فأوردناه في أول حديثنا عن الغرب وبينّا أنه لم يك منعزلا، كما أن إسلامه أكثر عراقة وقدماً من دولة الفونج ( دولة الفور  1445-1874 ودولة الفنج 1504-1821) فأيهما أعرق إسلاما؟ وأما العزلة فقد بينا الصلات مع جيرانها وضخامة تجارتها الرائجة ومحملها إلى مكة وبعثاتها التعليمية إلى مصر ولا نعلم أن لأهل (دار الصباح) محملا مثله.

        كما أن فكرة المهدية نفسها فكرة ثورية متقدمة ، فكيف تنبت مثل هذه الفكرة وتزدهر في وسط متخلف، منعزل،بائس ، كما يحلو للبعض تصويره ؟؟   ( - وليس يعيب الغرب أنه كان بحكم عزلته عن مراكز الحضارة المتقدمة وبحكم أوضاعه الاقتصادية الاجتماعية الفكرية في موقف أكثر تخلفا من غيره. فأهل النيل لم يكتسبوا مكانتهم الأكثر تقدما نتيجة عرقهم الأزرق أو تفوقهم الذاتي بل نتيجة موقعهم الجغرافي وحياتهم المستقرة على ضفاف النيل وتقلبهم عبر حضارات من عهد (كوش) رسبت في قاعهم العقلي والنفسي خبرات حضارية أكثر تجذرا) [36]. فانظر إلى هذه الادعاءات !!  فلا الغرب معزول عن الحضارة المتقدمة آنذاك ولا أوضاعه الاقتصادية – الاجتماعية الفكرية متخلفة ، بل العكس تماما هو الصحيح، بل الأصح أيضا أن أهل النيل إبان اندلاع الثورة المهدية كانوا في أسوأ حال من قهر وتردي من جراء الاحتلال التركي المصري، الذي جثم عليهم ستين عاما في حين أن الغرب لم يجثم عليه الاحتلال سوى أربعة أعوام كما بينا سابقا، وهو بذلك أكثر حرية في الحركة وأقوى شكيمة في المقاومة ، وشعوراً بالعزة والإباء والثقة بالنفس ، إذ أن الاحتلال لم يفلح في ترويضه أو إخضاعه بينما استسلم أهل (دار الصباح) لذلك تماما على مدى الأعوام الستين ، لم تغن عنهم إرثهم وحضارتهم التي تقلبوا فيها من عهد "كوش" وخبراتهم المترسبة والمتجذرة في عقولهم ونفوسهم،كما قد قيل !

 

          لعل ما أورده نعوم شقير من رسالة السلطان محمد الفضل إلى محمد علي باشا حين طمع في ملكه وسولت له نفسه غزو دار فور يرينا طرفا من عقلية تلك المنطقة وتصديهم للأمور الجسام ( أما بعد فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته لديكم قد وصلنا جوابكم أوصلكم الله إلى رضوانه ، وفهمنا خطابكم ومقتضى جوابكم، وكل كلمة من المرقوم يستحق جوابها المفهوم ولكن يكفي من ذلك كله كلام الحي القيوم أنكم طالبون دولتنا وطاعتنا وانصياعنا لكم، هل بلغكم أننا كفار وجب لكم قتالنا وأبيح ضرب الجزية علينا أو غرّكم قتالكم مع ملك سنار والشايقية، فنحن السلاطين وهم الرعية أورد لك دليل من الله تجد فيه ملكك؟ أم ورد لكم حديث من رسول الله تجد فيه تمليكك؟ أم خطر لك من عقلك بأن لك ربا قويا ولنا رب ضعيف ؟ الحمد لله نحن مسلمون وما نحن كافرون ولا مبتدعون، ندين بكتاب الله وسنة رسول الله (صلعم) ونؤدي الفرائض ونترك المحرمات ونأمر بالمعروف وننه عن المنكر والذي لم يصل نأمره بالصلاة والذي لم يزك نأخذ منه الزكاة ونضعها في بيت المال ولا ندخرها ونرد الأمانات إلى أهلها ونعطي كل ذي حق حقه .. الخ ، أما علمت أن دارفور محروسة محمية بسيوف قطع هندية وخيول جرد أدهمية وعليها كهولة وشبان يسرعون إلى الهيجاء بكرة وعشية .. الخ) نعوم شقير ج2 ص 131،132

 

          من هذه الخلفية الحضارية انطلق أهل الغرب ومن بينهم التعايشي . والذين قالوا بقسوة الخليفة ظلموه لدوافع كثيرة،أكثرها مغرضة، لقد بينت الأستاذة فيفان ياجي في مقالتها الرائعة عن شخصية الخليفة، خطل من اتهم الخليفة بالقسوة أو الجور أو المحاباة [37](وهنا أيضا فإن البعض ينسى ببساطة أن العديد من الوظائف الهامة خلال حياة المهدي كان يتولاها الاشراف وأولاد البلد ومختلف زعماء قبائل الشمال والجزيرة ).[38]

(إذا كان الخليفة ظالما كما يقال عنه فكيف يجرؤ إنسان أن يرفع ضده شكوى وتكون للقاضي الجرأة في دعوته للمحكمة والحكم عليه برد الشيء موضوع النزاع ) .[39]

          وتختم الأستاذة فيفان ياجي ( لقد اتفق الجميع على أن الخليفة كان يتمتع بذكاء وقاد وبصيرة خارقة، وكان يتميز بطاقة جبارة وشجاعة نادرة، كما أنه كان حليما واسع الصدر في حق أعدائه ، وبإيجاز فقد كان الخليفة يتحلى بكل صفات القائد العربي المسلم .) وأضيف أنا ، إذا كانت هذه هي صفاته فكيف تأتي شخصية كهذه من بيئة متخلفة، منعزلة.. بعيدة عن مراكز الحضارة المتقدمة .. الخ؟

 

          ذلك كان من أمر المهدية وهكذا كانت النظرة إليها من قبل أولاد البلد .. (كانت سلطة المهدية على أطراف النهاية وقد كرست عبر عقد من الزمان الممارسات الإقليمية والقبلية كما لم يعهده تاريخ السودان من قبل وأصبح الشرخ واضحا بين أبناء النيل وأبناء الغرب من ناحية إقليمية)[40].

 

وهكذا رأينا عندما جاءت جيوش الاحتلال بقيادة كتشنر 1897 تزحف،  نحو السودان رأينا كيف فعل بعض أبناء النيل .. وهم الذين رسفوا في الاستعباد طويلا (الحكم التركي المصري) ، كيف تحالفوا مع المحتل وكيف خانوا الثورة ،وكيف تولوا يوم الزحف وكيف تآمروا في القضاء على التجربة الأولى في تاريخ التحرر الوطني وكيف شهدت كرري الفاجعة.!

 

أورد نعوم شقير ص 649 ج3 (أما الجعليون والشايقية والدناقلة الذين هاجموا ميسرة الزريبة فما لبثوا بعد ما حمي الوطيس أن انقلبوا راجعين إلى أم درمان لأنهم سيقوا إلى ساحة الوغى بالرغم ) .

 

 

وبعـــد ،

فليس المقصود هنا فتح الجراحات وإثارة النعرات والعصبيات لكن مجابهة للواقع ، والنظر بتجرد وعمق ‎وفهم إلى التاريخ ، ليس بصدد تزييفه وإسقاط تبعات الإخفاق والعجز على الآخرين ، فهذا عجز آخر .. إنما هو استنطاق للمسكوت عنه على مستوى الراهن ومستوى التاريخ ، فالتعامي عن الواقع لا يعين على تجاوزه، ولكن رؤيته بعين التعقل والتبصر والإنصاف ، وإن أرتنا، هذه العين،  عورات الرجال فلكي نراها فنسترها وذلك خير لهم من أن يكونوا في قلة عقل فرعون يمشي عارياً يمشي بين الناس ، ولا يجرؤ أحد على أن يقول له ذلك ، مع أن الجميع يرونه، فهل من طفل ليقول ( انظروا ملكنا العريان ! ) .

 


نماذج معاصرة من الاستعلاء والقهر الثقافي

 

نقد الذهنية الثقافية المركزية

        وكما بينا فيما سبق، نظرة  المركز (أهل دار صباح) أو ( أولاد البلد ) كما يسمون أنفسهم ، إلى إخوانهم أهل الغرب ، حيث وصفوهم كأنهم التتار في هجومهم على بغداد : [ في وقت نجد فيه أن تجربة المهدي قبل فتح الخرطوم هي تجربة (استحواذ بدوي) على المناطق الأكثر تقدماً مما جعل الخلافات السودانية تتخذ شكل الفارق بين الريف البدوي (التعايشي وقبائل الغرب) والنيل الحضري (مفهوم المهدي المنتصر) فسيطرت عوامل الصراع الاجتماعي على مسار التجربة المهدوية ] [41]

       بل إن تطلعاتهم وآفاقهم ارتبطت بالاستعمار إلى درجة أن دخوله إلى البلاد يعدّ فتحاً يحررهم من قبائل الغرب، فانظر إلى هذه المرارات.. !! [.. وما كان يمكن أن تمضي جدلية التركيب الدائري للسودان في مسارها التطوري التاريخي لو لم يأت الفتح الإنجليزي المصري (ثنائياً) فعودة مصر منفردة لم تكن تعني سوى تحالف ما بين الإدارة المصرية الجديدة وعناصر النيل الشمالي والأوسط وفي شرق السودان ضد قبائل الغرب ] [42]

            يتساءل الدكتور منصور خالد [هل هناك هيمنة إقليمية أو عنصرية على السياسة الوطنية ؟ ثم  أو صحيح أن هناك رواسب ثقافية تعكس لوناً من الاستعلاء العنصري مازالت تؤثر على صنع القرار السياسي ، دون أن يعي صانع القرار السياسي بهذه الرواسب لأنها تتملك عقله الباطن ؟] [43]إن هذا النوع من الاستعلاء العنصري يمكن تتبعه بسهولة في كتابات كثير من مثقفي أهل الشمال النيلي ، فمثلاً ، وعودة مرة أخرى إلى تناول عهد المهدية يتحدث الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد عن حركة (أبو جميزة) فيصفه بابن شجرة الجميز (ظهر مهدي آخر في منطقة الفور وأصله غير معروف لاتباعه الذين اعتقدوا أنه جاء من شجرة جميزة ) ثم يردد بسخرية مرة ابن شجرة الجميزة .. باستمرار في أكثر من خمس مواضع في فصل يتحدث فيه عن تجربة الثورة المهدية وذلك دون أدنى تحقيق [44]، مع أنه كان  يكفيه أن يقول كما تقول كتب التاريخ "حركة أبو جميزة " حيث  يقول المؤرخون [ .. ظهر شخص اسمه محمد زين واشتهر بلقب (أبو جميزة) هدد سلطة الخليفة فيها . لم يأت أبو جميزة برسالة جديدة أو ابتداع مذهب مناوئ للمهدية ، بل اعتبر نفسه واحداً من أتباع المهدي . وكان كل ما ادعاه بأنه حليفة المهدي الثالث بعد أن رفض محمد السنوسي قبول المنصب، ولما كان المهدي والخليفة عبد الله قد منعا الحج ليتفرغ الجميع للجهاد ، فقد وعد أبو جميزة أهالي الغرب بفتح طريق الحج وبالتالي أيده كثيرون منهم كما انضم إليه أبو الخيرات .وسبب هذا التمرد متاعب جمة للخليفة وكاد أبو جميزة يستولي على دارفور كلها لولا وفاته المفاجئة ] [45]

لكن أكثر مثقفي أهل الشرق لا يرون ذلك ، فحين يتحدثون عن تاريخ السودان فمصادرهم ما كتبه المحتلون أو ما يسمح لهم به وحتى في هذا فهم  انتقائيين . فقد تحددت الذهنية وتأطرت وفق توجهات المستعمر فهي وإن انطلقت فهي كانطلاق العصفور داخل القفص لا يتعدى أسواره .

[ثم جاءت الثورة المهدية التي حكم فترتها الخليفة عبد الله 1885 1898م وهذه الفترة شهدت انهياراً اقتصادياً ، مجاعة سنة ستة ، شهدت صراعات إقليمية بين أولاد البحر وأولاد الغرب ، شهدت تفككاً داخلياً للسودان ، شهدت صراعات في الجنوب مع اللاتوكا،  وشهدت مواجهات دولية ، حيث دخلت بلجيكا وألمانيا ، وكادت إيطاليا تجتاح الشرق ][46] هذا التلخيص لفترة المهدية لم يكتبه كتشنر أو سلاطين باشا . وإنما ابن من [أولاد البلد]

 

من المسلم به أن تتعدد وجهات النظر والتقويم للشيء الواحد تبعاً لزاوية الرؤية والمنطلق ، وأن  نختلف فهذا أمر طبيعي لابد منه ، غير أننا ، أبناء البلد الواحد إذا كان لنا أن نختلف فثمة مسلمات من الاحترام والحد الأدنى لابد من مراعاتها ، للأسف فإن إخواننا أهل المركز ، يحملوننا حملاً على تبني وجهات نظر ، نحن أهل الأطراف لا نقرّ بها ، وجرف هارٍ يؤسسون بنيانهم عليها ، وهم يرونها من الثوابت !! كان يمكننا ، مع ذلك ، أن نقبلها إذا كانت هنالك أرضية احترام واعتراف بندية ومساواة ، ذلك أننا كلنا نخطئ ونصيب وكلا الخطأ والصواب ليسا حكراً على أحد ، غير أن الأمر ليتعدى لأكثر من مجرد الخطأ والصواب ، قد يصل إلى التحقير والازدراء والتسلط والتعالي والادعاء الأجوف وبغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين . إن الاختلافات الثقافية بحكم اختلاف الخلفيات أمر مألوف . ثمة أمثلة عديدة ، فبعض الناس قد لا ينظر إلى الزبير باشا بأكثر من نظرته لتاجر رقيق ، كما لا يرون في المك نمر إلاّ مجرد جبان هارب، ويرون السيد علي مجرد خائن متواطئ مع المستعمر كما كان سلفه ، ولا يرون في المهدي إلاّ شيخ متصوف غرر به التعايشي ،وأن أهل النيل هم الذين خانوا الثورة الوطنية الوحيدة التي أنشأت السودان الحالي ، كل هذه المزاعم فيها بعض الحقائق ، ولكن أين يقودنا أنصاف الحقائق ؟ المزيد من تكريس العصبية والتحامل والتنابز ، فقديماً رددوا مع عبد قيس بن خٌفاف :

      وإذا أتتك من العدوّ قوارصٌ           فاقرص كذاك ولا تقل لم أفعل

     

يقول الدكتور عبد السلام نور الدين (تنطلق الايديولوجية السودانية من مسلمات غير قابلة للمراجعة أو النقد أو الدحض .. فاللسان السوداني أكثر فصاحة وقرباً من لغة قريش والقرآن من كل الشعوب العربية المعاصرة من اليمن إلى الشام، أضف إلى ذلك أن لغة أهل السودان الدارجة هي فصحى بالقياس إلى تلك اللهجات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، أما القلب السوداني فعامر بالإيمان يسبّح الله آناء الليل وأطراف النهار ولا إسلام يعلو فوق إسلام السودانيين ) [47]

      هكذا يفضح د. عبد السلام نور الدين هذه الذهنية السودانية ، والتي هي في الواقع ذهنية [أولاد البلد] ، ذهنية احتكار و نفي الآخر، وترداد الكذبة الكبيرة بصبر وثقة وباستمرار حتى يصدقها هو ويمجها الناس ، حتى تفتقد دهشة الكذبة ، فيتعايش الناس معها كما يتعايش المرء مع عاهته التي ألفها وألفه الناس معها .

وتتفشى القبلية والعصبية في الشمال بصورة حادة ، وكلهم ينسب نفسه للعرب وللعباس ،

         وكلُ يدّعي وصلاً لليلى       وليلى لا تقرّ لهم بذلك

 والغريب أننا لم نسمع أن أحداً منهم نسب نفسه إلى بلال مع أنه أقرب رحماً ‍!.                ومن هذا الادعاء ( والناس أمناء في أنسابهم ) ، فإن العنجهية والازدراء لذوي الأصول غير العربية ما فتئت تطل برأسها في كل منعطف أو محك .‍

 

يقول د. منصور خالد في كتابه القيم " النخبة السودانية وإدمان الفشل .. الجزء الأول ص 68 [ إن اقتراب حكام السودان من هذا الأمر ، منذ الاستقلال كان مشوباً بكثير من الاستهانة وغير قليل من العنجهية ، ليس فقط إزاء أهل الجنوب بل إزاء رجال من ذوي الأصول الجنوبية . أو الأصول غير العربية الأخرى إلا أنهم أهل شمال بكل المقاييس ، وما جاءت إدانة هؤلاء الرجال من أهل الشمال إلا لأن طرحهم لقضايا أهلهم وذويهم كان ذلك على الصعيد الوطني والإقليمي كان طرحاً لم يألفه المهيمنون على حكم السودان من أهل الشمال النيلي الذين لم يجدوا في قاموس النعوت شيئاً يصفون به أولئك الرواد غير العنصرية .. ، جاءت هذه المحاولات ممن حسبوا أن الحديث عن القوميات المتعددة في السودان أو الحديث عن احترام الخصائص الثقافية لهذه القوميات خيانة لوطن .]

 إن المتتبع لهذه الظاهرة المتفشية في ذهنية أهل الشمال النيلي ، وليس وسط العامة والجهلة ، فلهؤلاء بعض العذر ، ولكن في أوساط مثقفيهم ومتعلميهم يحاولون مداراتها في كتاباتهم فتفضحهم السطور والكلمات ، وما أن يستفزّ أحدهم حتى يُظهِر كامن عنصريته وحقده، ويبدي تعاليه بأرومته الزائفة، مع أن الكل لآدم  وآدم نفسه من تراب ! أقول، إن هذه العاهة متأصلة ومتجذرة في ذهنية مثقفي أهل المركز من قديم، وأسوق صورة متقابلة بين ذهنيتي أهل المركز وأهل الهامش في موضوع خطير يتعلق بهوية السودان [ففي مناقشة تمت بينه وبين سليمان كشة حول مقدمة لكتيب شعري سوداني ، اعترض (علي عبد اللطيف ) على عبارة وردت عن الشعب السوداني باعتباره [شعب (عربي كريم)] مطالباً بتعديلها إلى [شعب (سوداني كريم) إذ لا فرق بين (عربي) و (جنوبي) [48]

هكذا كان ينظر علي عبد اللطيف ، سما على كل عصبية وعنصرية وهو الدينكاوي الأصل المتجذر في تربة هذا الوطن ما ادّعى وما انتسب ولا تُعرف له أرومة خارج هذا السودان ، أرضاً وتاريخاً ، أدرك أن العروبية والسودانوية ليستا بأب ولا أم ، فماذا كانت نظرة (بعض) أولاد البلد إليه بعد حين ؟ حين تصارعت المصالح وبانت المواقف [انبرى حسين شريف يقول .. ( إن البلاد قد أهينت لمّا تظاهر " أصغر وأوضع رجالها" دون أن يكون لهم مركز في المجتمع .. وإن الزوبعة التي أثارها الدهماء قد أزعجت طبقة التجار ورجال المال .. ودعا الكاتب إلى استئصال شأفة أولاد الشوارع) ] وذكر إنها لأمّة وضيعة تلك التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف .. وذلك الشعب ينقسم إلى قبائل وبطون وعشائر ولكل منها رئيس أو زعيم  أو شيخ وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد .. ويعمد كاتب الحضارة للإساءة لعلي عبد اللطيف الدينكاوي الزنجي الأصل .. ( من هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهوراً حديثاً وإلى أي قبيلة ينتسب ؟) [49]

" وللتذكير ، فإنّ حسين شريف كان هو محرر صحيفة ( حضارة السودان ) !!! "

   

وهكذا زالت القشرة الرقيقة فبدت سوءة العنصرية والشعوبية كأقبح ما تكون . وليست هذه مسألة عارضة فلعلنا نذكر بالأمس القريب حوادث 76 ، فقد سمّوا المشاركين فيها أيام النميري ، وأكثرهم من أبناء الغرب ، سمّوا تلك الحركة المسلحة بالغزو الأجنبي ، وبالمرتزقة ؟! بل أنكروا انتماءهم للسودان بسبب سحنتهم وربما لعجمية في ألسنتهم . 

       ومثال آخر لهذا التعالي الزائف والحقد العنصري  ، يقول الأستاذ الشاعر محمد الفيتوري في مقدمة المجلد الأول من إشعاره : (ذات مرة التقيت في الخرطوم بأحد مواطنيّ ولم أكن قد رأيته من قبل، وليست لي به سابق معرفة ، أنا لا أذكر اسمه الآن وحين قدّمني باسمي إليه صديقي عثمان وقيع الله أدهشني بثورته المفاجئة في وجهي، وقال كلاما كثيرا ما يزال يطنّ في أذني منه هذه الجملة "ما هذا الشعر الذي تكتبه يا أخي ، لقد فضحتنا إنني أكرهك.." .

          وأردف الفيتوري يقول "لقد أردت بالفعل أن أفضح واقعنا اللاإنساني الأسود ، ولن أسمح لنفسي بالمساهمة في تزييف هذا الواقع .

          ترى كم منا يعمل بدأب وهمة في تزييف هذا الواقع عن علم أو عن جهل ؟

 


 

المأزق أو الورطة الثقافية

 

          إذا سلمنا أن لهذا الكيان العريق والذي يبدو مترهّلا ، بهشاشة تكوينه وواقعه الذي نشهد فلا بد أن نســلم معه بتنوع وأنماط ثقافاته بمثل ما سلمنا بقبائله المستعربة والمتأفرقة . أن نسلم  بهذا السودان وفي ذهننا اختلاف ألسنتنا وألواننا وأن ندفع بهذا الاختلاف والتنوّع إلى عمل أكثر إيجابية .

          إن المركز، وبإصراره على أحادية الرؤيا،يخسر كثيرا ،ويخسر معه السودان كله ، وإن الرؤية المتعالية لا معنى لها ، وربما يجد المرء بعض التعليل إذا كان للمركز شيئا حقيقياً يقدمه وبضاعة رائجة ، المؤسف حقاً ، أن المركز فقير إلى حد الإدقاع ، وكانت له الفرصة السانحة ليغنى ويغتني ، ويفيد ويستفيد من وضعه الممتاز لو كرّسه في اتجاه لمّ الشتات ، والاستفادة من التنوع والألوان العديدة والأنماط والأشكال التي يوفرها الأطراف، من بيئتها الغنية وتراثها المتنوع وألوانها المختلفة . كان يمكن كذلك للمركز أن يكون بوتقة بحق تجمع وتشكّل ، فتبهر وتبدع لو تواضع قليلا وتأمل كثيرا ونظر بعيداً وبقلب منفتح ، لكن يبدو أن فقر المركز نفسه  هو فقر في الذات ، لا يمكّنه حتى من الاستفادة من كل هذه المعطيات . كالعيس في البيداء يقلها الظمأ ، والماء فوق ظهورها محمول . أو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، كما وأن فاقد الشيء لا يعطيه.

          لا يعيب المركز شيئا إذا كان أهل الغرب لا يؤمنون بالقباب لأن رؤيتهم الإسلامية نحوها تختلف ، وإذ يرون أن ذلك التقديس لا ينسجم مع مفهومهم للإسلام وخلفياتهم التي تعلموا منها فهمهم للدين ، فهم قد تلقوها من  المغرب (الأندلس والمرابطين وما انحدر منهم) لا عن طريق مصر عبر النيل  ، وليس في هذا الفهم رقّة في الدين أو حداثة عهد بالإسلام ، ولم يدخلوا في جدال فقهي مع اخوتهم أولاد البلد باعتبار أن هذه القباب نوع من الشرك،أو بقايا الفهم الفرعوني النيلي في فكرة الخلود ،وشكل من أشكال الأهرامات الموروثة في الذهنية النيلية بصورة لم تشهدها أية بقعة إسلامية أخرى في العالم ، وليس (دار الصباح) هو المكان الوحيد في الدنيا التي آثرها أولياء الله في الأرض مرقدا لهم في سباتهم الأبدي)، فقط هي نظرة أخرى ونوع آخر من الفهم .

          وأهل الغرب لديهم من الخلاوي ودور العلم فاقت تنظيما وعددا الشمال النيلي فهي من مؤســسات الدولة تقتطع لها الحواكير وتستجلب إليها العلماء وتتلمذ فيها السلاطين ، ومع هذا فإننا حين نتحدث فلا نذكر إلا خلاوي الغبش وأم ضبان وربما أخيرا " همشكوريب". مع أنه في كل هذا وذاك يصب في التراث العريض لشعب السودان فلم التفرقة ؟

         يتعجب أهل المشرق حين يرون أهل الغرب يكتبون بالخط المغربي ويجعلون ذلك مثار سخرية وتندر ، إذ لا خط إلا النسخ والرقعة ، كما أن رواية أبي عمرو الدوري  المتواترة في الغرب ما تبناها أهلنا في المشرق إلا للمباهاة بأن لديهم شيئا متفردا حتى سموا المصحف مصحف أفريقيا وهي تسمية فيها نظر!

          وبينما إخواننا في المشرق يتمسّحون بالأضرحة ويحلفون بالأولياء بل وبالقبور والقباب ، يعيبون على أهل الغرب ولعهم بالتعاويذ والأحجبة والرقي و"المحايات "، وكلها سلوك مع ما فيها من ضحالة الفهم الشعبي للدين وبعض الجهل إلا أنّ هذا لا يعطي امتيازا لأي منهما على الآخر ، فلماذا ضلال هذا مسموح به وضلال ذاك مثار التهكم والسخرية ، لولا التعالي وعن جهل ؟ لم يدّع أهل الغرب على كثرة قبائلهم المنتسبة إلى العرب صفاء العرق واللسان ، وقد استطاعت مملكة الفور (ومع أن اسمها مملكة الفور) أن تمثل في تاريخها أروع الأمثلة للتجانس القبلي، والإثني ، ففيها المسلمون كما فيها غيرهم ، وكلُّ صبغ المملكة ووجهها الثقافي دون امتياز للفور باعتبارهم الحكام ، بل إن الجميع ارتضوا الاحتكام للإسلام في فهمهم له دون تعالي مجموعة عرقية على غيرها، ومع حدوث التمرد أحيانا والظلم والاحتراب فما نشأ اضطراب أو تمرد على إذلال عرقي أو تسلط ثقافي أو هيمنة أو حتى قسر الناس على الاعتقاد، فللوثنيين نظامهم وقانونهم وممارساتهم في إطار المملكة الموحدة.

          الإنسان المواطن القادم من غرب السودان إلى المركز يرى عجبا ، يسمع صوت زنقار فيشكُّ هل المغني امرأة أم رجل ؟ يستمع إلى رجل يغني مشاعر شابة ويقول بصوته الرجولي "أبوي يا يابا ما تقول ليه لا "! ويسمع في نفس المكان امرأة تغني  ، ربما تردد " الشيخ سيرو" أو "عجبوني الليلة جو" أو "يجو عايدين " ولكن لا يستطيع أن يفهم الرجال الذين يغنون أغاني البنات عيانا جهارا (أخوي ما جري وشوف عيني جريتو ، جري السواد ، وكسرتو حطب الكداد ، وقايلنو قصب البلاد .!" الخ . ثقافته لا تستوعب هذه ولا وضعه الاجتماعي ، فقد  يقول قائل ربما هذا لتخلف وضع المرأة في بيئته ،غير أن العارف للتاريخ يعرف لهذا الشخص أنّ في تاريخه غير البعيد ، ما للمرآة من مكانة سامية متقدمة ، ففي دار السلطنة فهي ممن بيدهم الحل والعقد ( .. الميارم أخوات السلطان والحبوبات ، جدات السلطان  كما أن  موكب سلطانهم يتكون من أولاده،  ووزرائه،  وأخته الكبرى،  والعلماء،  والقضاة. فتقف أخته وراءه راكبة جوادا ومن ورائها الجواري حاملات أباريق النحاس)[50] . والمرأة عندهم لها حلقات علم ومكانة وتجــارة ، تبني المساجد (… وجامع بنته أخت السلطان حسين في القسم الجنوبي من الفاشر)[51] ، ولا ينظر إليها بأنها نظرة مختلفة تثري وتضيف ، فماذا يحدث إذا  كان أحدنا ينظر إليها بتعال ويراها سمة من سمات التخلف.

 

          أهل المركز دائما يجعلون لأنفسهم الكلمة الأخيرة في الأمور،  ينقل أحدهم من المركز إلى الأطراف فيحمل كل عنجهيّته وعُقَده ، وينظر إلى مواطنيه وأهله في الأطراف من علٍ ، فيعمد مثلا ،من واقع سلطته إلى اسم المكان لأنه لا يستسيغه فيسميه ، الفردوس مثلا أو إلى" عدّ الغنم"  فيسميه "عدّ الفرسان " ناسيا أو جاهلا المعنى الرمزي والإرث التاريخي، لم سمّي " عد الغنم " والظرف البيئي والجغرافي من وراء الاسم ، وربما كان هذا المسؤول من " الشكينيبة " أو " واوُسِّي " أو " كاب الجداد" أو " الفششوية " ، وما ذاك إلا الادعاء  والتعالي وممارسة الاضطهاد الثقافي . يقف ابن الغرب ليقرأ ،فتغلبه لكنة لسانه وازدواجية لهجته ،فبدلا من أن يقول أنا يقول "أني" وبدلا من أن يقول اعطني يقول "انطيني" أو يتعثر في قراءة القرآن فيقول "قل هو الله أهد‍ " فيضحك عليه ابن النيل لعجمته ويسخر منه ويتقدم هو ابن النيل ويقرأ (إنّا أنزلناه في ليلة الغدر..‍ وما أدراك ما ليلة الغدر ..‍؟ ‍‍)‍‍‍‍!! ‍والأخير يدعي أنه سليل العروبة دما ولغة وليس له لسانا إلا العربية والأول أفريقي له رطانته المحلية يجتهد أن يؤدي فروض دينه ولا يألو جهدا أن يبتدع من الوسائل والطرق ما يحفظ به قرآنه على أكمل ما يسعفه لسانه ، تسأله عن القرآن فيجيبك عن كل حرف وموضعه في القرآن وفي أي سورة ، في نظام فريد قبل اختراع الكمبيوتر بقرون . " يأتي إلى السوق ويسأل بكم الحوت ، فيترجم ابن النيل لأخيه ساخراً ، الغرّابي يقصد السمك ! "  ويسمع يقولون عن الموسيقى ولا  يرى في الغناء الذي يسمعه إلا لحنا واحدا  بين "الحقيبة" و "المديح" فلا تعرف أيهما إلا بالتأمُّل في جمال العبارة. . ذلك أن أهل المركز مع ادّعائهم العربي ليس لهم من فنٍ وغناءٍ قائمٍ بذاته إلاّ ما توارثوه من المدائح والغناء الديني الصوفي ، والذي يتجلى في غناء الحقيبة ، فمعدنهما واحد حتى ويستعير أحدهما لحن الآخر على الدوام وعلى رتابة لحن لا يشفع معها إلاّ التنوع في الكلمات .

        لم يبذل المركز كثير جهد في سبيل معرفة ثقافة هذا الوطن الذي يتحدث باسمه . وهذه سمة عامة لتفكير أهل المركز ، وبإطلاقٍ وجرأةٍ ، فمثلاً يقول الأستاذ محمد وردي ( في حقيقة الأمر الأغنية السودانية تختلف عن الأغنية العربية ،وذلك لأننا في الأغنية السودانية نستعمل ما يسمى بالسلم الخماسي ، هو الطابع الأفريقي في الغناء بجانب الطابع الأسيوي ، أما الأغنية العربية ففيها الدواليب والمقامات العربية .. وهذه لم تدخل السودان بعد.. )[52] أنظر إلى هذه الجملة الحاسمة مع أن ما اصطلحوا على تسميته الأغنية الكردفانية ( غرب السودان ) يدحض هذا القول تماماً ، ولكن ثقافة نفي الآخر هي الطاغية . نسمع المارشات العسكرية كل يوم وكلها من الأطراف وأغلبها من غرب السودان ( أهازيج الحرب عند قبائل الشلك والبندة والكريش وقبائل غرب السودان وجبال النوبة) [53]وما للمركز منها إلاّ ما ورثته من المحتل مثل "إسماعيل باشا أبو مدافع " أ و " كولونيل بوقي " وهكذا لم يتح المركز لنفسه حتى فرصة التعرف على الآخر . والشكر لطلعت فريد ، وزير الاستعلامات والعمل إذ تأسست في عهده في الستينيات فرقة الفنون الشعبية السودانية. حيث شهد المركز لأول مرة ،رقصات الكمبلا والفرنقبية، والنقارة ، والمردوم وأغاني ورقصات الجنوب ،وما يزال المركز يقتات على أرثها دون أن  يضيف أو يطوّر. بل ويكاد يندثر هذا الإرث بعد أن تعدوا عليه بالسطو والتشويه والاستحواذ ، وأخيراً بالإهمال. وما لاقى الغناء والرقص والموسيقى أصاب كل ضروب الثقافة والفنون ، تسمع في إذاعة السودان عن (نادي الطمبور) مثلاً، و(الطمبور) آلة واسعة الانتشار جداً في شرق السودان وفي غربه وجنوبه ، تسمع إذاعة السودان فلا تجد في نادي الطمبور إلاّ مجموعة من  بعض أهل الشمال النيلي وحدهم حتى نوبة أقاصي الشمال لا تجد لهم ذكراً فيه ، وحدّث عن ضروب الثقافات والفنون الأخرى ، الزي ، الطعام ، السلوك ، وكل أنماط النشاط الإنساني ، إمّا بالتجاهل أو الجهل أو الازدراء أو التعالي ، ثم نزعم بعدئذ أننا ندعو لوطن واحد يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات. فيا للهوة بين القول والفعل . أم هل فعلاً ، نعنى ونفهم ما نقول ؟


 

محاولة للخـروج من المأزق !

 

          يقول الأستاذ محمد أبو القاسم عن الوسط ( إن هذا الوسط ورث نبته وورث مروى ، بمعنى أنه تضافرت فيه بحكم موقعه أنواع من الثقافات والمهيئات الحضارية لم تتوافر في مناطق أخرى. لم يأت هذا الوسط وزحف بجيوشه لينهب خزينة على دينار. الذي حدث هو العكس . إن الوسط بهذا الاقتصاد البسيط وبهذه الإمكانات القليلة جداً وبدون أن تتشكل فيه طبقة رأسمالية ولا صناعية ولا إقطاعية طلب منه أن يتحمل السودان بأكمله)[54].

 

          حسناً ، ربما تضافرت  للوسط النيلي هذا الإرث المزعوم. لكن واقع الحال والممارسة لا يشيران بأي شيءٍ ممّا يزعم إرثه ، ثم ما دخل خزينة على دينار هنا ؟ وانظر "الذي حدث هو العكس " ! مثل هذه النظرة والتفكير ومثل هذا التعالي في الخطاب والعجرفة تسعى الأطراف إلى إيجاد كيانات لها تقاوم بها هذا السلوك والهيمنة المركزية ، وتدافع بها عن كياناتها وتحاول أن تبلّغ إلى المركز بأن مثل هذه السلطة البابوية لا تقود إلى ألفة ولا إلى انصهار، حتى وإن وصل الأمر بالمركز إلى نعت هذا التذمر بصفات العنصرية وبغيرها من قاموس التُّهم ، لسان حالهم :

يا حارِ إن لم تدع شتمي ومنقصتي                  أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

 

تماماً كما أفاد الدكتور منصور خالد ، ( لم يبق للمهمشين في أجندة التعبير " العنصرية " غير الشعارات .. ومن الغريب حقاً أن يحدث هذا في فترة شهدت بلورة الوعي المصلحي عند أهل الريف مما انعكس في التجمعات الريفية المختلفة. وأغلب الظن أن قوى التغيير لتنظيمات الريف هذه لم تختلف في نظرة القوى التقليدية لها ، أي باعتبارها مجموعات "عنصرية " ، لا هدف لها إلاّ القضاء على " الوجود العربي " وهو تعبير لا يريد منه أصحابه إلاّ تكريس هيمنة أهل الشمال النيلي على بقية القطر)[55].

 

          ويقول الدكتور عبد الله عبد الماجد ( إن ممّا لاشكّ فيه أن عدم استكشاف وبناء حاجز وهميٍ بين الشخصية السودانية والهويات المجاورة لها، يعد جهلاً ثقافياً ، كما ، تجاهل العناصر والقوميات التي شكلت الذاتية السودانية والفرد السوداني ، والذي ظل السودان يستقبل أمواجاُ منها كالجراد المنتشر من الداجو وبرنو والهوسا وكانم و زغاوة وفلاّتة برقو، وتنجر ، والبربر والتكرور والباجرمى الذين هاجروا إلى السودان وسكنوا فيه واختلطوا بشعب وادي النيل وصاهروهم سواء أكانت المصاهرة من قبائل الفور ، المساليت أو اليمن أو الشلك أو النوير ،الأتراك أو الجانقي والسارا أو الفرتيت والقِمِر ، أو النوبة والمصريين والبجة والتي في إطارها وتفاعلاتها التاريخية والاجتماعية ولدت الشخصية السودانية المعاصرة ، إن إيجاد حاجزٍ وهميٍ بين الذات وهذه الكيانات ومحاولة تهميشها يعدّ أيضاً تخلُّفاً حضارياً وسياسياً).[56]

          يقول الدكتور محمد أحمد بدين إنّ احساس البعض بأن الثقافات العربية قد هيمنت على ثقافات الأقليات وسلبتها من دورها الوطني والتاريخي ، أخشى أن أقول إن هذا ليس هو محض ادّعاء أجوف بل فيه شيء كثير من الحقيقة يمكن للناس إذا ما ابتعدوا عن الحساسيات والتعصب أن يأتوا إلى كلمة سواء حول هذه القضية المهمة عن طريق النقاش الهادئ والهادف . [57]

          ترى كم منا ومن أبنائنا من يعلم شيئا عن الملك (عجبنا ) ودوره في تاريخ السودان ؟ وماذا في المقررات المدرسية عن ( علي دينار ) مثلاً أو ( السلطان محمد الفضل ) أو ( السلطان تيراب ) ماذا نعرف عن (السلطان تاج الدين ) أو عن موقعة ( دروتي ) . قد نعرف عن " ود حبوبة " أو " المك نمر" بل و" مهيرة بت عبود" ومع الاحترام اللائق بهم جميعا ، فليس دورهم بأعظم من أدوار أقرانهم في الأطراف ، مثل ( السٌّحيني ) أو  (الأمير هارون ) . كم هو محزن أن يكون كل مبلغنا من العلم عن الشرق وثقافته هو الأمير البطل (عثمان دقنة ) وقصة " تاجوج والمحّلقٌ " وكل ما نعرف عن " جبل مرّة " هي أغنية أبوعركي / الكابلي أو خليل اسماعيل أو أنها منطقة سياحية !! وماذا نعرف عن الجنوب وثقافاته ؟!

 

 

          وفي الختام ، فقد يسهل توصيف الداء ، فهو في الفكر ، عميق الجذور ، يكمن علاجه لدى المثقفين في مراقبة النفس والصدق معها ، وتجنب الازدواجية والتناقض بين القول والفعل ،والتيقًّظ الدائم بأن هذا السودان فيه مما يوحد الكثير وزاخر بالإمكانات ، وكما يقول د. منصور خالد ،( قطر اجتمعت له عبقرية المكان وعبقرية الزمان ، عبقريته المكانية هي موقعه وما حبته الطبيعة من خيرات ، وعبقريته الزمانية هي تدافع الشعوب والقبائل إلى رحابه منذ زمان مديد .) [58]

 

ولكن أيضاً فيه من عوامل الفرقة ما إذا تمّ التغافل عنها فهي كالسوس، بل أكثر فتكاً وخبثاً ، وللأسف فإن عوامل الفرقة والشتات تتمًّ تغذيتها بانتظام لتنخر في البنيان ، لا من قبل الاستعمار والذين يريدون بنا شراً ،" المشجب الذي نستسهل أن نلقي عليه تبعات عجزنا دائما " ، ولكن فينا ومن بيننا ، نحن الذين تلقينا قدراً من التعليم ، كان القصد منه تبصرة وتنوير أهالينا وبصائرهم وقيادتهم إلى حيث التوحُّد والانصهار والسموّ عن  الكذب والادّعاء والـتعالي بغير وجه حقٍ ، إلى حيث يعون أنهم في ركب الأمم اليوم مع الخوالف ، بل وأكثر الأمم تخلُّفا وأننا لا شيء على الإطلاق ، وأن اجترار أمجاد الماضي ، وعلكها ، وأكثرها كذب، لا يفيد ، بل لعلّ الأفضل أن نجعلهم يرددون مع أبي نواس :

 

          تبكي على طلل الماضين من أسد          لا درّ درٌّك قل لي من بنو أسـد

          وما تميمُ ، وما قيسٌ ولفّهمـــا     ليس الأعاريب عند الله من أحد

 

ففي النهاية لا معنى للإرث المجيد إن لم نحافظ عليه ونزيد فيه وقبل ذلك نفهمه ونستوعبه وإلاّ ، فكما قيل :

 

          فابك مثل النسـاء ملكاً مضاعاً              لم تحـافظ عليـه مثل الرجــال

 

لنفتح نوافذنا الداخلية بحب وعقل ،وقلب منشرح متواضع متنزه عن أحقاد الجاهلية ، وننظر إلى أخوتنا في كل أرجاء الوطن وأطرافه بالاحترام اللائق وبلا تعالٍ ،ننهض ونكون أولاً ، فإذا حافظنا فقط على توّحد هذا الكيان ،فإن هذا سيكون أعظم انتصارات الجيل ونحن مقبلون على قرن جديد .

       ولأهل المركز فإن أهل الأطراف يقولون هذه المرة وبصوت عالٍ ، ربما للمرة الأخيرة :

          فإمـا أن تكـون أخي بحـق                   فأعرف منـك غثي من ســميني

          وإلا فاطّرحني واتخـــذني                  عـــدواً أتقـيـك وتتقــينـي

 

                                                                                       

                                                                   عالم عباس محمد

                                                                  

 

 

 

 

 



[1] - زين العابدين صالح جريدة الخرطوم 30/3/98 عدد 1765

[2] - صلاح الدين فرج الله (مجلة الخرطوم) ، 13/1994 ص 181

[3] - محمد أبو القاسم حاج حمد - السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل ج1 ص 289

[4] - زين العابدين صالح جريدة الخرطوم 30/3/98

[5] - مجلة الخرطوم عدد 13/94 توصيات ندوة الثقافة السودانية ص 181

[6] - أبو القاسم المصدر السابق ص 171

[7]  - أبو القاسم المصدر نفسه ص 171

[8] - نعوم شقير تاريخ السودان الحديث

[9] - د. حسن أحمد إبراهيم تاريخ السودان الحديث مقرر الصف الثالث الثانوي طبعة 1988 ص 46

[10] - نعوم شقير المرجع السابق ج2 ص 121

[11] - أبو القاسم حوار مع فيصل محمد صالح جريدة الخرطوم 19/7/1995

[12] - أبو القاسم السودان والمأزق التاريخي ج1 ص 94

[13] - نعوم شقير المصدر السابق ج2 ص 137 وما بعدها

[14] - نعوم شقير المصدر السابق ج2 ص 145 وما بعدها

[15] - نعوم شقير المصدر السابق ص 146

[16] - نعوم شقير الصدر السابق ص 146

[17] - د. حسن إبراهيم المرجع السابق ص 8

[18] - نعوم شقير المصدر السابق ص 129

[19] - د. عبد الله عبد الماجد الغرابة دار الحاوي للطباعة والنشر 1998 ص 355

[20] - أبو القاسم المرجع السابق ص 85

[21] - د. حسن إبراهيم المرجع السابق ص 50

[22] - د. حسن إبراهيم المرجع نفسه ص 46

[23] - نعوم شقير المرجع السابق ج3 ص117

[24] - أبو القاسم المرجع السابق ص 86

[25] - نفسه المرجع السابق ص 90

[26] - نفسه المرجع السابق ص 143

[27] - نفسه المرجع السابق ص 95

[28] - نعوم شقير المرجع السابق ص 74

[29] - نفسه المرجع السابق

[30] - أبو القاسم المرجع السابق ص 86

[31] - فيفان أمينه ياجي شخصية الخليفة عبد الله مجلة الدراسات السودانية 23 أكتوبر ص 47

[32] - أبو القاسم المرجع السابق ص 94

[33] - نفسه المرجع السابق ص 96

[34] - نفسه المرجع السابق ص 95

[35] - نفسه - المرجع السابق 95

[36] - نفسه المرجع السابق ص 124

[37] - فيفان ياجي المصدر السابق

[38] - فيفان ياجي المصدر السابق

[39] - فيفان المصدر السابق

[40] - أبو القاسم المرجع السابق ص 119

[41] - أبو القاسم المرجع السابق ص 94

[42] - أبو القاسم المرجع السابق ص 172 " المؤلف يصف باستمرار الغزو الأجنبي بالفتح "

[43] - د. منصور خالد –(النخبة …) ، ص 67

[44] -أبو القاسم المرجع السابق ص 100،101،123،170 ..الخ

[45] -د. حسن ابراهيم –المرجع السابق – ص 46

[46] - أبو القاسم-حوار مع فيصل – جريدة الخرطوم –الأربعاء 19/7/1995

[47] - القاضي – مقال عن جواهر والهوية ..جريدة الخرطوم الأحد 15/3/1998

[48] - أبو القاسم – (السودان والمأزق .. ) – هامش ص 251

[49] -- أبو القاسم المرجع السابق هامش ص 258

[50] - نعوم شقير- المرجع السابق – ص 145

[51] - نفسه – المرجع السابق- ص146

[52] - القاضي – مقال عن جواهر والهوية ..جريدة الخرطوم الأحد 15/3/1998

[53] - محمود دليل " مقال عن أحمد مرجان – جريدة الخرطوم- الجميس 15/1/1998

[54] - ابو القاسم – حوار … جريدة الخرطوم الأربعاء 19/7/1995

[55] - د. منصور خالد – ( النخبة .. )- ص97

[56] - د. عبد الله عبد الماجد – ( الغرّابة .. )ص 51

[57][57] -د. محمد أحمد بدين – ( الفلاتة الفلانيون في السودان- مركز الدراسات السودانية) - ص 103

[58] - د. منصور خالد – ( النخبة .. ) - ص 73