المشهد الثقافي السوداني بين مصطلحي الجلابة والغرابة

محمود الدقم

almoglad@yahoo.com

  توطئة:
كشفت احداث دارفور الاخيرة الكثير من الحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن ان تتحمل اكثر من ذلك. كشفت احداث دارفور الاخيرة ان البركان الذي هز الاقليم اولا وكاد ان يعصف بغرب افريقية لا السودان وحده ان اسبابه البنيوية لا تتموثل فقط في ضرورة الالتقات الى التنمية البشيرية والاقتصادية والسياسية للاقليم فحسب. بل الامر يبدو ابعد من ذلك بكثير بمستويات امست تطرح اشكالية العلاقة بين الهوية الافريقية والعروبية ولكن في اطار عرقي وليس في اطار موضوعي ثقافي. والاخطر من كل ذلك ان احداث دارفور الاخيرة المؤسفة قامت بتجريد المثقف السوداني من ثقافته الصفرية تماما سواء كان نصير الهوية العربية او الافريقية وجعلته يقف عاريا وسط كل هذه المتناقضات.
تعدد ثقافي ام تنوع ثقافي؟
لا يختلف مثقفان ان الثقافة العربية التي دخلت ابان عبدالله بن السرح كانت بحد السيف وهي فلسفة تقبل الطرح الموضوعي في الاطارات التاريخية. لكن المهم هنا ماهية المنتوج الثقافي الذي تحقق بعد ذلك مقارنة بالعهد ماقبل الاسلام؟ بل ما قبل الميلاد بقرنين او اكثر عندما اسست كوش امبراطويتها انطلاقا من جدليات التنوع الثقافي الكائن بين الكوشيين والخارج خصوصا عندما دانت كل من مصر وليبيا وبلاد الشام حتى فلسطين لبلاد النوبة وخصوصا في عهد الملك ترهاقا*؟ يذكر الدكتور جورج طرابيشي في كتابه (الرق والمشاع) في حقبة ما قبل الميلاد ان الخيالة الكوشيين هزموا جيوش الروم مرتين على ضفاف المتوسط هذا التنوع الثقافي للكوشيين امتد الى بلاد الاغريق حيث اتت بعض الاثار على ان الملك بعانخي اهدى الملوك الاغاريق مدربين سودانيين في ترويض النمور والكثير من العبيد ومن هؤلاء العبيد كان هناك شاعرا كتب ملحمة اصبحت تشكل تيمة في التراث الاغريقي القديم. واذا تجازونا تلك الحقبة نجد ان التنوع الثقافي في الاطار الاسلامي تجلي في شكل واضح ابان الاندماج الذي تم بين عبدالله جماع زعيم العبدلاب وعمارة دنقس ممثل العنصر الافريقي الفنجي والذي انتهى بتاسيس الدولة السنارية ١٥٤٣-١٨٢١ م حيث انداحت القبائل العربية والافريقية** المسلمة لتلقي العلوم الدينية اثر قدوم علماء من المغرب وبلاد الحجاز ومصر علما ان السنارية لم تسفه موروثات حقبة ما قبل الميلاد مثل الكركر والراكوبة والبنبر واللدايا التي تستخدم كمقعد لطبخ العصائد وعواسة الكسرة بل اصبح كل ذلك في اطار التنوع الثقافي في الحداثوية الجديدة.
حتى الامام المهدي في عهد الدولة المهدية كان حريصا على هذا التنوع الثقافي لكن في اطار الفكر السلفي الديني حيث اعلن تجديد الخطاب الديني بالنسبة للمتصوفة مما دفع ببعض رجال الحركات الصوفية ان لا تتورع في التعامل مع المستعمر. اللوحة الثقافية التنوعية التي رسمها الامام المهدي تناولها الدكتور فرانسيس دينق في بعض مؤلفاته ولاسيما عندما حضر بعض سلاطين الدينكا مبايعيين الامام مع سبق اصرارهم وترصدهم بضرورة اللحمة الوطنية.
صاحبت حقبة ما عرف (بتحقيق المصير للسودان) واستقلاله من نير الحكم الانكليزي محاولات لتحجيم التنوع الثقافي لحساب التعدد العرقي. بمعني ان معادلات ادارة البلاد تكون وفق مناظير عرقية في الاصل انطلاقا من مرجعيات سالبة تكونت في عهد الخليفة عبدالله التعايشي واهم هذه المرجعيات:
-
اقصاء الخليفة التعايشي لوجهاء قبائل اولاد البحر وعدم السماح لهم بتقليد اي منصب اعتباري.
-
حملة عبدالرحمن النجومي الى توشكي حيث كانت مشروع ابادة براي مثقفي بعض الشمال لاحقا للقبائل العربية شمال الخرطوم الى حلفا.
-
دعوة عبدالله التعايشي لاهل الغرب من البقارة والفور والشلك والدينكا ان يحجو فورا الى امدرمان حيث انهم قطنو في احياء خصصت لهم مثل حي ودنوباوي والملازمين وغيرها وفسر هذا بانه ترانسفير ضد العنصر العربي لمصلحة القبائل الافريقية والبربرية في قلب العاصمة.
-
نكبة المتمة التي شكلت تحولا دراماتيكيا وكربلاء ابدية في اي تعاطي لانصار العروبة الشماليين ضد انصار الافريقانية بغرب السودان.
كان العديد من وجهاء القبائل الثلاث التي تسيطر الان على السلطة ابان ارهاصات زوال دولة المهدية كانو في الحقيقة يتحينون الفرصة للانقضاض عبدالله التعايشي والقبائل التي ناصرته في تاريخه النضالي وكانت حملة كتشنر الفرصة الذهبية لهم حيث عملت الكثير من قبائل ما بعد شمال الخرطوم مع الانكليز كمخبريين وقصاصين طرق وطباخين وشعراء.
بعيد خروج المستعمر البريطاني رحمه الله رحمة واسعة بدا تنفيذ المخطط ان يدفع سكان كردفان ودارفور والجنوب فاتورة عبدالله التعايشي وما ارتكبه من حماقات في نظر بعض دعاة الاستقلال وساعدت جغرافية السودان المتباعدة*** للعب هذا الدور وخصوصا جنوب السودان وعلى وجه الاخص قانون المناطق المقفلة الانكليزي الصنع بالرغم من انتهاء مفاعيله واصبحنا بصدد ما يمكن ان اسميه مؤقتا (عرقية الثقافات) اي ان اساس التعامل السياسي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي مع غرب وجنوب السودان ينطلق من بعد عرقي محض. وليس كفاءات او الانتاج الثقافي المتراكم في الجنوب والغرب.
انتشرت حمى العرقية كاساس للتعامل في كافة مناحي الحياة السودانية وتعطلت بالتالي اواليات التنوع الثقافي التي كانت زاهرة ابان حقبة ماقبل الميلاد اولا ثم التي كانت سائدة في عهد السنارية وحلت محلها نظرة الدونية والعلوية في التعاطي المباشر مع الاخر انسان غرب السودان كل الحكومات العسكرية والديمكراهية كانت يوم بعد يوم تكرس مفهوم عرقية الثقافات وليس ثقافات العرقيات التي تعني بالضرورة التنوع الثقافي. مؤسسات المجمتع المدني والانتلجنسيا بما فيها الاحزاب السياسية لم تستطيع خلق اوعية ثقافية ولم تستطع ان تقدم لنا مشروع ثقافي يصالح بين الثقافات الافريقية المحلية في جنوب السودان مثل طقوس الرث والمكوك وشروط تنصيب الكهنة عند مجموعات الدينكا مثلا وبين الكجور في مناطق جنوب كردفان جبال النوبة باعتبارها ارث مثيوليجي تراثي او اشكال التنوع الثقافي بين المسيرية والدنيكا هذا ا لتنوع الثقافي الذي اعتمدته الادارات البريطانية كاساس تعايش بين القبائل هناك من جهة اخرى. وتراث الشايقية والمحس ودار جعل هذا الموروث الثقافي الرائع شمالا وتراث الهدندوة والبجا مرورا بتراث البطانة والشكرية الخ من جهة اخرى في قالب وطني شفاف.
بل على العكس من ذلك كانت هناك حالات وصايا دائمة من قبل السياسين على المشروع الثقافي بحيث تجعل احداثيات المشروع الثقافي تابعا بدون اي قرار او راي للسياسي بمساعدة طقوس الصوفيين النفعيين .
وعندما غاب المشروع الثقافي الموزايكي للسودان المتعدد الاعراق والثقافات. وجد السياسي فرصته واستباح البلاد عامة والغرب خاصة في ممارسة المتعة السرية الشوفينة عليه ليتم تاليا تاسيس (العرقي السياسي) كاساس لادارة البلاد. وهكذا في ظل غياب الثقافي تماما عن الساحة كرقيب ومصحح عم التخلف والرجعية والامية و والجهل السياسي وغابت المنهجية والسياسة الواضحة لادارة البلاد هذه العرقية ولدت رد فعل عرقي اخر تمثل في بروز منظمات الانانيا كرد فعل عرقي جنوبي لفعل عرقي شمالي في المنلوج السياسي والاجتماعي. وانتهت الجوقة بحروب دموية استمرت ذهاء الاربعين عاما حتى مؤتمرات الصلح في اديس ابابا لم تلفح لانه اغفلت البعد الثقافي في الموضوع وابعدت الثقافات المحلية في ان تتفاعل مع المركز.
واذا هذا التدهور المريع فجاءة اكتشف المثقفون من ابناء الغرب انهم كانو في غيبوبة تامة باسم الشيخ الصوفي وباسم الحزب الفلاني الذي يطلب منهم الطاعة باسم الله وباسم هذه الطاعة كانوا متخلفين وكانو مهمشين تماما في كافة المجالات. المثقف نصير الافريقانية لم يكن لديه مشروع ثقافي موضوعي لانه اصلا لم يكن لديه المؤسسية الثقافية المتكاملة التي تسمح له بمجابهة( السياسي العرقي) القادم من الشمال فلجاء الى ارشيف ذاكرته الجماعية الشفاهية فلم يجد الا مصطلح سخيف وتافة وظن انه بذلك اكتشف المجرة هذا المصطلح هو مصطلح الجلابي اوالجلابة وتعني (العربي الشمالي تاجرالرقيق الكذاب النفعي الوصولي الذي يبتلع عهوده ومواثيقه مع ابناء الغرب والجنوبيين قبل ان تجف) واصبح يروج لهذه الثقافة ثقافة الجلابيين وبداء كانما شخص يحمل عود طلح لمحاربة جيش يملك اسلحة فتاكة المثقف الشمالي ايضا لا يملك مشروع ثقافي متكامل ووطني يؤرخ للوحدة الوطنية وعندما هرع الى ذاكرته الجماعية الشفاهية وجد مصطلح غرابي او الغرابة (وتعني الهمج الرعاع سكان الغرب الذين هم عصير قبلي من البربر النيجيريين والتشاديين الذين من حسن حظهم دخلوا الاسلام) بنظره. وظن انه بذلك يستطيع ان يحسم المسالة وهكذا نجح السياسي في ان ينصب مصيدته بين انبياء العروبة والافريقية في السودان. والسياسي هنا لا يهمه كثيرا ان يكون هناك سودان واحد او مائة سودان بقدر ما يهمه شركاته الضخمة التي تدر عليه الملايين من الدولارات وهو في ذلك ان يستخدم الدين الاسلامي والمسيحي والاوراحية بان يضرب عرب درافور بافارقته او بين المسيرية والدينكا او بين المسيريه الزرق او النوبه في جنوب كردفان.
واخيرا:
المثقف عليه الان ان يقوم بدور المصلح للذي افسده السياسي لان دور المثقف ليس كتابة التاريخ شعرا وملاحم بل تحمل المسؤولية كاملة عبر المتاح من دمر سينما من مسارح من معارض تشكليه من شبكات انترت قارية الى تاليف كتب اقامة ندوات وابتكار قنوات ثقافية جديدة لتعرية السياسين الذين ما زالوا يمارسون عملية استغباء المثقف السوداني الحر الحقيقي.
انه ليؤسف له ان نجد بعض المثقفين يجترون وياسسون للمشهد الثقافي السوداني بعبارات الجلابة والغرابة اذ ان هذه المصطلحات اصبحت منغرضة تماما وعلى المثقفين ان يبتكروا اسلحة ثقافية جديدة تجعلنا امة بين الامم.
اي اتفاقيا سلام يعقدها السياسي مع السياسي بعيدا عن الثقافي الذي يطالب بمنفبستوا اعطاء الحرية للثقافات الافريقية الهامشية ان تعبر عن كينونتها عن ذاتها داخل المركز ستكون لا محالة فااااااااااااااااشلة.
هوامش:-
*
arkamani.org/newcush_files/modernhistory/modern-history-directory.htm1

الملك تهارقا

 -**راجع كتاب طبقات ود ضيف الله بخصوص الاوليا-البرفسور يوسف فضل-صدر عن دار نشر جامعة ا لخرطوم تقريبا
***
جنوب السودان وخلفيات النزاع البرفسور محمد عمر بشير-دار الجيل لبنان