المجتمع المدني السوداني في دارفور والخروج من حالة العجز الراهنة

عالم عباس محمد نور/جدة

amohamedNor@isdb.org

أهداف هذه المحاضرة هي:

مخاطبة منظمات المجتمع المدني السوداني وإحاطتها بحقيقة النزاع في دارفور وجذوره، وكيف وصل إلى هذا الدرك المأساوي.

حث هذه المنظمات للقيام بدور فوري وعاجل لإيقاف المأساة، كما فعلت في جنوب السودان، وتشجيع التفاوض.

مواصلة سعيها لإيجاد حل جذري للمشكلة، باعتبارها مشكلة سياسية في المقام الأول، بما يحفظ للسودان وحدته و كيانه.

دفع هذه المنظمات لممارسة الضغط لجلاء الحقائق بشفافية وإطلاع الشعب السوداني على ما يجري.

النظر بإيجابية وتشجيع، و مؤازرة أي مسعى نحو وقف نزيف الدم، و المساهمة بتقديم الآراء والحلول و الرؤى في هذا الاتجاه.

تمهيد:

تقع منطقة دارفور بين خطي عرض 10 –16 شمالا و خط طول 22-27 شرقا, على مساحة تقارب خمس مساحة السودان ( حوالي 510,888 كلم مربع) كما يقارب عدد سكانها ربع سكان السودان.

بلاد السودان هو الاسم الذي أطلقه المؤرخون والجغرافيون العرب على الحزام الذي يقع جنوب الصحراء وشمال الغابات المطرية والممتدة شرقا حتى ساحل البحر الأحمر وغربا إلى نهر السنغال والمحيط الأطلسي، وشاع هذا الاسم بين المؤرخين المعاصرين. هذا الحزام احتوى ممالك إسلامية عديدة، إذ ضم السودان الغربي ممالك مثل مالي. والهوسا وكانم وضم السودان الأوسط ممالك البرنو والباقرمي و وداي، و ضم السودان الشرقي مملكة دارفور.

تشكل مملكة سنار (1504-1821) ومملكة دارفور (1445-1874)، مع إضافة الإقليم الجنوبي إليهما ما يعرف حاليا باسم جمهورية السودان والتي استقلت بهذا الاسم في يناير 1956م.

مملكة سنار قضى عليها الغزو التركي المصري عام 1821 وبعد ذلك بثلاثة وخمسين عاما أفلح اسماعيل باشا والزبير باشا في إسقاط مملكة الفور عام 1874م . ولم يستمر الأمر طويلا حتى جاءت الثورة المهدية 1881م فأطاحت بالحكم التركي المصري وأقامت دولة إسلامية.

ومع أن ثورة المهدية كانت وطنية ودوافعها إسلامية، فإن أمدها القصير لم يكن كاف لتحقيق الانصهار بين شعبي المملكتين في اول تجربة وطنية حاولت ضمهما في كيان واحد. بل أن التاريخ ليذكر أن أهل دارفور قد قاوموا الثورة المهدية مثل مقاومتهم الحكم التركي المصري حتى أخضعهم الخليفة، حتى إذا جاء الغزو الإنجليزي المصري استطاع القضاء على الثورة المهدية ودحر الخليفة في كرري عام 1898، فانهارت تلك المحاولة الوليدة, والتي لم تستمر لأكثر من ثمانية عشر عاماً.

علي دينار أحد أمراء الفور في المهدية بعد اندحار الخليفة في معركة كرري، وإثر مشاورات تمت مع من يوالونه من زعامات القبائل بدارفور، عاد إلى دارفور مستعيدا سلطنة أجداده، مستقلا بها منذ 1898م وحتى مقتله وسقوطها بين براثن الإنجليز عام 1916.

هكذا بسط الإنجليز سطوتهم على كل الإقليم الذي حوته الدولة المهدية والذي عرف بعدئذٍ، باسم السودان الإنجليزي المصري، وحتى جلائهم عنه عام 1956م.

ابناء دارفور أسهموا إسهاما بيِّناً في تحقيق استقلال السودان الذي تم عام 1956، حيث ظهر إلى الوجود ما عرف حاليا بالسودان, وبحدوده المعروفة التي ورثناها من دولتي الحكم الثنائي.

الوطن الموروث وإهدار الفرص:

بدا واضحاً إن هذا الوطن العريض، الذي أفلح ابناؤه في تحريره, محاط باشكالات عديدة منذ ميلاده، ويحتاج إلى عمل دءوب لرتق فتوق نسيجه، ولم شعثه، والعمل على توحيده. بدا ذلك منذ أيام الاستقلال الأولى, واستمر يستفحل، دون أن يبذل جهد حقيقي مثمر، الى أن آل الأمر إلى ما آل اليه، مما نشهده جميعا، وما نعلمه بالضرورة, ومما لا حاجة لشرحه في هذه العجالة.

المتأمل في أمر دارفور، ولمعرفة ما يجري فيها حاليا, لا بد أن يستصحب معه تاريخ صلة دارفور ببقية أجزاء السودان الاخرى. وإذا تأملنا قليلاً، فبإمكان المرء أن يلحظ في السودان ثلاثة كيانات بارزة, قد تزيد ولاتنقص, يمكن اجمالها في مايلي:

شمال ووسط السودان النيلي, بما في ذلك شرق السودان، والذي تمثل فيما كان يعرف في السابق بمملكة سنار.

غرب السودان بما في ذلك كردفان، والمتمثل فيما عرف سابقا بمملكة دارفور.

جنوب السودان.

لكل من هذه الكيانات خصائصه وجغرافيته وتميزه واختلافه عن الآخر بشكل لا تخطئه العين او الأذن.

ثمة حراك قديم مستمر، وتفاعل يتشكل إلى درجة الصراع والاقتتال بين هذه الكيانات، اتخذت وتتخذ أنماطاً شتى. فأما الجنوب، فأمره الآن يتم حسمه وتحديد وضعيته وشروط علاقته بالوطن، وما يتبع ذلك، في مشاكوس ونيفاشا. وأوشك الامر أن ينجلي إلى أمرين واضحين: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان!

ما يعنيني في هذا المقام، العلاقة بين دارفور و وسط وشمال السودان النيلي, ولماذا فشلا في تحقيق الانصهار بينهما، وقد اتيحت لهما تلك الفرصة الثمينة مرتين؟ أولاهما في المهدية، والأخرى بعد الاستقلال عام1956.

لمعرفة طبيعة ما يجري حاليا, ينبغي لنا ان نعرف مايلي:

1-       دارفور وسنار كانتا مملكتين مستقلتين، دارفور (1445-1874) وسنار (1504-1821) ومع أنهما مملكتين إسلاميتين, فالعلاقة بينهما كانت علاقة تنافسية, وربما اطماع، شأن كل مملكتين متجاورتين، متنافستين، إلى درجة التحرشات والحرب بينهما، شأن كثير من الدول الإسلامية المستقلة، من قبل، والى اليوم.

2-       لم تجتمعا في إدارة واحدة إلاّ من قبل المستعمر (التركي المصري)، الذي اخضعهما معا، للمرة الأولى لسيطرته, شأن الدول التي تخضع لمستعمر واحد يديرها جميعا في آن.

فترة بقاء المستعمر في كلتا المملكتين، ليست متساوية أو حتى متقاربة، لإحداث تأثر واضح بالوضع الجديد على نحو يخلق انسجاماً بينهما، أو ثقافة مشتركة، او انصهارا قوميا. فقد غزا الاتراك المصريون دارفور عام 1874- اى بعد اكثر من خمسين عاما من إحكام قبضتهم على مملكة سنار (1821)، ولم يبقوا بدارفور اكثر من سبعة اعوام مليئة بالاضطرابات والثورات, وبالتالى، فالتأثر بالاستعمار التركي المصرى وثقافته كان بيناً في سنار، التي رزحت لأكثر من ستين عاما تحت وطأة الاحتلال, ولا يبدو أن الاستعمار خلف أي أثر في سنواته تلك، القليلة في دارفور.

الاستعمار الثنائى (الانجليزي المصري)، الذي قضى على الثورة المهدية (1898)، جثم على الشمال والوسط النيلي (مملكة سنار سابقاً), وعادت دارفور كسلطنة مستقلة من جديد. ولم يسقطها المستعمر الا عام 1916 م (بعد 18 عاما)، ونتيجة لمتغيرات دولية كثيرة وتكالب استعماري على القارة.( والتنافس الإنجليزي الفرنسي على السودان ما بين فاشودة ودروتي!)

 التجربة الوطنية الأولى، والحقيقية لمشروع الانصهار و الدولة الموحدة، هي تلك التي كانت في فترة المهدية، والتي استمرت ثمانية عشر عاما (1881-1898).

خلال تلك الفترة القصيرة وضحت بصورة جلية، الفوارق والصراع على السلطة، وبدأ الانشقاق المبين بين ابناء البحر (او البلد) وبين ابناء الغرب. فحين ارتضى أهل الغرب بابن البحر وآزروه، وآووه ونصروه، باعتباره المهدى المنتظر, بالمقابل, لم يتسع ماعون اولاد البحر (او البلد) للقبول بالخليفة الذي استخلفه المهدى نفسه, وكان ما كان مما نعرف، ومما هو مبثوث في كتب التاريخ وما نسمعه من افواه الرواة و(الحبوبات)!!

فترة الثورة المهدية تلك، كانت قابلة لتشكيل هوية سودانية، وتوحيد وجداني، وخلق شعور قومي مشترك، بتوفر أشراط كثيرة ومواتية. ولكن نسبة للتباين الواضح، والتفاوت بين ثقافتين متنافستين, اصبحتا متناحرتين. وبين تكالب واضح على السلطة ومآرب سياسية, صراع, كانت نهاية تلك التجربة في (كررى)، وملفه الضخم من التهافت والفظائع والفضائح، حتى سمي الاحتلال القادم, فتحا وخلاصا, سبب تلك المرارة و الحنق هو ربما ما زعم بسيطرة ابناء الغرب على مقاليد الأمور إبان حكم الخليفة الذي لم يدم لاكثر من ثلاثة عشرة سنة!!. لكن ما بقيت في النفوس من جراحات وذكريات, تعمق الفوارق, تشرنقت في انتظار أوان الفقس .

بعد استقلال السودان عام1956, وبالرغم من اسهام دارفور الواضح في تحقيقه وعلى كافة المستويات, بدت مظاهر التفرقة, وخاصة فيما يتعلق بتوزيع السلطة. كان نصيبهم الكفاف. وبلغ الحال المزري درجة أن يتم ترشيح نواب الإقليم من خارج الإقليم ومن خارج أبناء دارفور ليفوزوا نوابا ممثلين عن هؤلاء. ومنذئذ، والجراحات تتراكم، والغبن يحتقن، وتجلت في مناسبات واشكال كثيرة يعرفها الناس, ليس هذا مجال لحصرها أو ذكرها، فقد ذكرت في مناسبات عديدة.

ما يتردد في اوساط كثير من متعلمي دارفور, وقد تم التعبير عنه في مناسبات مختلفة, أن وضع دارفور ضمن إطار السودان الحالى, أمر تم بلا مسوغ قانوني، ولم يستفت أهل دارفور فيه, وقد استغفلوا حين كانوا يناضلون للخلاص من المستعمر, فلا يعرفون الحيثيات التى تم بموجبها اعتبار دارفور ضمن هذا النسيج المسمى السودان، ولم تك من قبل!! هذا سؤال مشروع وسؤال خطير.

أما أنه مشروع فلأنه من حق الناس أن يعرفوا كيفية انتمائهم إلى وطنهم فهو سؤال يحتاج إجابة بالفعل، فلا تاريخ المنطقة ولا الجغرافيا قد جعله جزءاً عضوياً من هذا الكيان، خاصة وما قد جمعهم من قبل كان خضوعهم جميعاً لمستعمر واحد، (دولة الحكم الثنائى). ولعل وصف الاستاذ ابو القاسم حاج حمد في محاضرته في صحيفة الصحافة عن( السودان الجديد والسودان التليد),  يصدق على هذه الحالة، اذ قال (ان السودان لم يلتئم الا في عام 1874 من خلال (التلصيق) الذى تم بين ممالك الفور وتقلى والفونج والعبدلاب والجنوب والزاندى, وليس هناك بنية اقتصادية ولا بنى تحتية تجعل هذا الشعب يتدامج والاقتصاد ما زال طبيعيا, أي أن مشروع السودان هو مشروع دولة ومجتمع).         

أقول لو أن الآباء المؤسسين, قادة جحافل الاستقلال والذين من بعدهم ممن تولوا مقاليد الامور, ركزوا جهدهم في دراسة شاملة لتركيبة هذا الوطن واعترفوا بالفوارق والتمايز باعتبارها تنوعا داخل نسيج وحدوى يعملون على صياغته وحبكه و تقويته، ووسعوا مواعين المشاركة, ولو أنهم تحملوا عبء المساومة التاريخية، كما عبر عنها الدكتور عبد الله علي إبراهيم، ومواجهة القضايا الوطنية الكبرى و التفاوض حولها، قبل بوتقة الناس وحشرهم بالقوة، باستغفال واستهبال ماكرين، وأن وطناً بمثل هذا الحجم والتنوع في الاعراق والثقافات، سيستحيل أن يحكم مركزيا من الخرطوم, وأن الاستئثار بالسلطة، دون مشاركة حقيقية لأهل بقاع السودان المختلفة وأطرافه، وأن الوقت والمال والأرواح التي أهدرت، منذ الاستقلال وحتى اليوم (نصف قرن كامل)، لو احسن استغلاله بفهم رشيد وحكمة, لكان الحال خيراً مما هي عليها الآن, ولكن كيف وقادتنا الذين تولوا زمام أمرنا، كما قال فيهم الاستاذ محمد أبو القاسم, في محاضرته بمنبر الصحافة (وأهل الوسط هؤلاء لم يجدوا حضارة حتى يقال أن تنمية هذه المناطق تم على حساب الاخرين, ولكن تنميتها مرتبطة بمصالح استعمارية وأهل الشمال فيها مجرد خدم, وأولادهم ارتبطوا بخدمة الاستعمار وكانت النتيجة عندما ذهب الاستعمار كانوا هم البديل ولم تكن هناك ثقافة سياسية)!

بوادر البراكين المكبوتة

حريق دارفور الكبير:

ما ذكرناه أعلاه بمثل خلفية تاريخية رأيناها ضرورية في تيسير فهم المناخ و الحاضنة التي أفرخت النزاع, والذي بدت بوادره منذ أوائل الستينات (بعد الاستقلال بسنوات قليلة)، واستفحل عبر كل الحكومات بلا استثناء، ككرة الثلج تتضخم عند تدحرجها عبر السنوات, حتى بلغت وبرزت بهذا الوجه الدامي المدمر, ما تذر من شيءٍ أتت عليه إلا جعلته كالرميم. هي نذرٌ لما هو أفظع وأشمل، إن لم تسعفنا الحكمة في الوقت المناسب!!

لعل أسباب النزاع كثيرة, ساهم في تعقيدها سوء التعامل معها إما قصداً وإمّا جهلاً, ونظن أن اغلبها كذلك، متى غلّبنا حسن الظن! نذكر منها:

انعدام التنمية: فليس في دارفور كلها منذ الاستقلال أي مشروع للتنمية يذكر، والمشاريع الصغيرة التى بدأت على استحياءٍ, ماتت أو وئدت بالإهمال؛ مثل السكة حديد في زمن حكومة عبود، والذي انتهى في نيالا, وطريق نيالا- كاس- زالنجي, الذي اندثر بالإهمال وعدم الصيانة, ومشروع ساق النعام, وغزالة جاوزت، وجبل مرة. وأن دارفور التي بها 26% من ثروة السودان الحيوانية, ليس بها مستشفى بيطري واحد, وأما الطرق، وخاصة ما سمي بطريق الإنقاذ الغربي، والذي اقتطع أهل دارفور من قوت عيالهم لتشييده، فأمره ومصيره معروف!!.

2- تردي الخدمات مع ضعف الموارد: الأمن- التعليم- الصحة- -الفاقد التربوي 000الخ.

3- الجفاف والتصحر والدمار البيئي: عدم صيانة الحفائر والآبار, النزوح والاحتكاك والصراع على الموارد الشحيحة(الماء و الكلأ) بين الرعاة والمزارعين. الإهمال ...الخ.

4- غياب أو ضعف الأمن والسلطة.

5- تحويل المنطقة إلى ساحة استقطاب حزبي وإذكاء النعرات القبلية و التمايز العرقي، واستغلال السلطة في خلق ولاءات جديدة، وجعلها ساحة تصفيات حزبية، وتأجيج الاقتتال بين القبائل على أساس عرقي(حمرة وزرقة)

6- خلخلة نظم القبائل الراسخة في علاقات الأرض و الزعامات و النظام الأهلي، واقحام مسميات وسلطات لا تنسجم مع ما هو موروث.

7- جعل المنطقة حقل تجارب لتغيير نظم إدارية اهلية راسخة، دون خبرة، أو دراية كافية، وخلخلتها لتمكين الموالين من السيطرة على الأمور.

 استعمالها كساحة حرب بين فصائل لدول أجنبية بعلم الحكومة المركزية و بموافقتها، (تشاد و ليبيا، كمثال).

 تهميش أبناء المنطقة وتعميق احساسهم بالظلم والاجحاف من قبل المركز وضعف مشاركتهم فى السلطة .

المتغيرات القومية والاقليمية والدولية

سوء التناول الاعلامى مع الحقائق وعلو نبرة التحقير والازدراء والتعالي والدمغ بالعنصرية والجهوية والوصف الانتقائي المنحاز. خاصة فيما يمس أبناء الغرب (استدعاء الذكريات المريرة)

آفاق الخروج من الأزمة

إن الأمم العظيمة مهما كانت خلافاتها الداخلية وتنافسها، ومهما بلغ الكيد ببعضها فإنها أمام المواقف القومية، تقف كتلة واحدة حتى تتجاوز المحنة وتمضي العاصفة، و لعلنا جميعا مأمورون باتقاء الفتن ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). لو أن القائمين على الأمر استمعوا للقائلين بضرورة عقد المؤتمر الدستوري، وأن يشمل أجندته كل ما يتعلق بأمر السلطة و الثروة، وأسلوب الحكم في السودان، لو أنهم فعلوا ذلك لما احتاج الناس إلى "مشاكوس" أو "نيفاشا" أو "أبشي" أو "انجمينا"، ولما احتاجوا إلى إملاءٍ خارجي أو تدويل، لكنهم عموا و صموا ثم عموا و صموا كثيراً، فكانت تلك فرصة أخرى قد ضاعت، فلا يفيد البكاء على اللبن المسكوب.  ومع هذا، فبالذي تبقى من حكمة، بادر بعض أهل السودان في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بما تيسر لهم من منافذ ومن وسائل. فتحدثوا مع الأطراف المعنية، وبذلوا النصح و الرأي و المشورة مما قد ساعد ويساعد كثيرا في الوصول إلى صيغة معقولة، قدر الإمكان، مؤمنين بأن شأن الوطن أكبر و أجل من أن يترك لأهل الإنقاذ وحدهم، فكانت مساهمة الأحزاب، و قبلهم منظمات المجتمع المدني، بضغطهم و مثابرتهم، قد أدت،  أول ما أدت إلى هذا الوقف لإطلاق النار، واستمر الضغط لإدامة هذا الوقف، وألاّ نكوص عنه. والآن، فإن المفاوضات على وشك ان تثمر فى مقبل الايام على سلامٍ, لا نكتفي بأن نتمنى أن يكون دائماً, بل وأن نعمل مخلصين على إبقائه وديمومته، بل واستنفار العالم كله للإسهام فيه.

إن ما يجرى فى دارفور ووسائل حله, يحتاج الناس معه أن يتعلموا من دروس "مشاكوس" و "نيفاشا", وأول درس فيه هو أنا إن لم نتصد للحل، وننهض له بالجدية اللازمة والتجرد التام والشجاعة فى مواجهة الحقائق, فإننا سنمتثل لحلول تفرض علينا، قد لا ترضينا، ولكن لن نستطيع لها دفعاً.

إن ما يجرى فى دارفور الآن مأساة ومأساة حقيقية. وقد وصفها المراقبون الدوليون بأنها( أسوأ كارثة إنسانية فى افريقيا، وربما في العالم - روجر وينتر – كبير موظفى العون الامريكى ) إن التصريحات التي اطلقها موكيش كابيلا منسق مجموعة المانحين لدى الامم المتحدة عن الأوضاع في دارفور، وغضبة حكومتنا على تلك التصريحات، ووصفها أنها مبالغ فيها، وإصرار كابيلا عليها, أياً كان رأينا (أو رأي حكومتنا)،في مبالغتها أو غير ذلك، ليؤكد لنا عمق المأساة وما يجرى على أرضنا، مما يجعل كل منظمات المجتمع المدنى (والسوداني بصفة خاصة) أمام واجب وطني وإنساني وأخلاقي و ديني، للقيام بما يلزم لوقف هذه المأساة فوراً، بالضغط على أصحاب القرار و صنّاعه. وفى هذا الصدد فلابد من الشروع في الآتي:  

1 – المبادرة بتثقيف الرأي العام بأبعاد المشكلة, وأنها مشكلة سياسية فى المقام الأول, وينبغي حلها في هذا الإطار, وخلق رأي عام في هذا الاتجاه.

 2- الضغط بكل الوسائل الممكنة لوقف إطلاق النار فوراً في دارفور والسعي الحثيث لإجراء مفاوضات سياسية جادة، تضم كل الأطراف السودانية, حكومة ومعارضة ومجتمع مدنى والحرص على ان تضم المفاوضات كل الفئات المتحاربة وأبناء دارفور المستنيرين منهم خاصة، دون تفرقة أيا كانت, وأن يشمل منهم رموز العمل الوطني وزعماء الإدارة الأهلية من دارفور، ومن كافة انحاء السودان.

3- الحرص على إيجاد صيغة لإشراك دول الجوار المعنية بالصراع، مثل ليبيا وتشاد وافريقيا الوسطى، باعتبارهم مؤثرين فى الأحداث بحكم التداخل القبلي والحدود المفتوحة.

4- الدعوة للإسراع فورا في نزع أسلحة الجنجويد وإحكام سيطرة الحكومة عليها وعلى أية مليشيات أخرى.

5- العمل الدءوب والضغط على إجراء تحقيق قضائي واسع النطاق والسلطات عما جرى ويجري في دارفور وتقديم المتهمين فى جرائم انتهاك حقوق الإنسان للمحاكمة العادلة.

6- الضغط على الحكومة للقيام بواجبها فيما يختص بتعويضات المتضررين ودفع الديات، والمبادرة بحملة لجمع التبرعات داخليا وخارجيا لهذا الغرض.

7- السعي فورا بالضغط على اصحاب القرار فى فتح ممرات لانسياب الاغاثة- والإسهام مع المؤسسات الدولية فى هذه الحملة الانسانية الملحة.

8- الضغط على اصحاب القرار بتوضيح الحقائق واصدار البيانات الموثقة وجعلها متاحة للمواطن لمعرفة ما يجرى بشفافية وبأمانة ومسؤولية والابتعاد عن التعتيم ونشر الأنباء الكاذبة أو تلك التي تزرع التفرقة أو تخلخل النسيج الاجتماعى.

9- القيام بحملة قومية يكون رأس الرمح فيها من أبناء دارفور المستنيرين ومن القبائل المختلفة للعمل على رأب الصدع ورتق فتوق النسيج الاجتماعي وإشاعة السلام بين القبائل، والتي كانت تتجاور وتتداخل وتتفاعل وتتعامل فى انسجام فريد وفي تناغم، وفق أعراف راسخة امتدت لقرون, وتعضيد روح التسامح والعفو واحتواء العناصر المارقة وفق آليات محددة ومنضبطة ومبرمجة.

10- أن يسعى المجتمع المدنى ويعمل بقوة وإصرار على عقد مؤتمر دستورى يضمُّ كافة أهل الحل والعقد فى السودان، وخاصة أهل المناطق المهمشة، والنظر بجدية فى طرح توزيع السلطة والثروة فى السودان بحيث لا تكونان حكراً لفئة أو جهة أو طائفة دون أخرى، وفق أسس يتراضى عليها أهل السودان جميعا، ويشهد عليها العالم، وتوفر لها ضمانات الإنفاذ وآلياته.

إن مشكلة دارفور ومأساتها الماثلة للعيان, قد عرَّتْ هياكل القيادات الأحزاب السياسية, وكلها بلا استثناء، كان دورها باهتا, وهزيلاً, أكثرها اقتصرت على البيانات والمبادرات الكسيحة، التي فقدت الحماس، حتى من مطلقيها أنفسهم, وأكثرها بدت جهوية طائفية, مركزية غير فعالة. وقد خابت آمال أهل دارفور ومثقفيها فى فعالياتها وقدراتها، وبدت كأنها هي نفسها متواطئة، إما بالسكوت، وإما بالمبادرات المسرحية، وإما بالمشاركة في المأساة! والذي تقوم به من فعلٍ تجاه ما يجرى, يمثل خيبة أمل كبرى لما يتوقع منها, ولابد من تحفيز وتحريك وتعرية هذه القيادات لتقوم بما يجب, من إيقاف هذا النزيف الحاد, وهذه المأساة. إن عبء هذا التحريك ليقع، بلا ريب، على عاتق المجتمع المدني وللشروع أيضاً في ضخ دماء جديدة وأفكار، وابتداع قيادات تواكب التطور المرحلي لهذه الأحزاب.

لعلَّ أخطر ما يواجه الوطن هو الوقوع في شراك حل النزاعات القومية عن طريق التجزئة, وتقنين انتزاع الحقوق الوطنية بقوة السلاح, أو ترك هذه المسائل الخطيرة لاجتهاد حزب بعينه, أو حكومة بعينها, دون النظر اليها في إطار قومي جامع، ووفق أجندة وطنية شاملة, وبرنامج واضح وشفاف ومنصف.

أن تضيء شمعة خيرٌ من أن تلعن الظلام

المؤتمر القومي الجامع للتنمية والسلام والتعايش بدارفور:

أعلن السيد رئيس الجمهورية في التاسع من فبراير 2004 انتهاء العمليات العسكرية بدارفور, ودعا إلى مؤتمر جامع للتنمية والسلام. والبنود التسعة التي تضمنها البيان حوت فتح مسارات الاغاثة ومعالجة أوضاع المتضررين وعودة النازحين وتوجيه الأجهزة الأمنية لضبط حيازة السلاح، وتكوين لجنة للتعايش السلمي.

إنَّ أي مسعى يحول دون إراقة دم وإيقاف نزيف الاقتتال، يجب الترحيب والإشادة به ومؤازرته ومعاضدته, ليس من قبل المكتوين المباشرين بنار تلك الحرب فحسب, بل ومن كل أبناء الوطن في أي مكان.  ولهذا فإننا نرحب بهذه المبادرة، التي انتظرناها طويلا, دون تردد. ندعمها ونسعى إلى إكمال النواقص فيها, وبيان مواضع الخلل فيها لتلافيها ومعالجة أية قصور بها, حتى تحقق أكبر قدر من أهدافها المعلنة والمأمولة, إن شاء الله. وعلى كل حادب على الوطن أن يمد يد المساعدة ويأتي بما يستطيع من جهد فكري و مادي ومعنوي.

لقد وجهت انتقادات عنيفة لمبادرة الرئيس ومن اطراف عديدة. فحزب الأمة قالت على لسان امينها العام د. عبد النبي إن المبادرة خلت من تحديد مواعيد معينة تنتهى فيها  , ولم تتضمن تفاصيل أجندة المؤتمر الجامع , ولم تتحدث بصراحة عن وقف إطلاق النار, ولم تحدد صلاحيات المؤتمر الجامع والقوى السياسية المشاركة وأجندة المؤتمر. أما الدكتور الطيب زين العابدين, ففي مقاله المنشور بجريدة الصحافة, والمنقول على موقع سودانايل بعنوان (تمرين فاشل فى التحول الديمقراطي), قال منتقداً (أول النقائص أن مهمة المؤتمر القومى حصرت في تغذية النسيج الاجتماعي ودعم السلام والاستقرار والتنمية واستنفار الجهدين الشعبى والرسمي من أجل تحقيق الأمن والاستقرار بولايات دارفور). ويستطرد: (أما النقص الواضح فى تكوين اللجنة فهو أنها ليست قومية بالقدر الكافى لأنها غيبت أحزابا كاملة مثل المؤتمر الشعبى والحزب الشيوعي، دعك من البعثي والناصري, وأضعفت تمثيل حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي وتمثيل أعيان قبائل دارفور, في حين تجاوزت أحزاب الحكومة ال70 % من الأعضاء. وكالعادة تكوَّشت الحكومة على مناصب اللجان الفرعية، فقد أخذت 6 رؤساء من 7 و5 أو 6 مقررين من سبعة, وقس على ذلك فى الرؤساء المناوبين والمقررين المناوبين. وما كان يضيرها لو قبلت بمقترح حزب الأمة في أن يترك للجان انتخاب الرؤساء والمقررين, ولكن رئيس اللجنة أصر على أن المنصة هي التي تختار الرؤساء والمناوبين لهم والمقررين والمناوبين لهم. ويمضى د. الطيب زين العابدين فيقول     (من ناحية أخرى فإن حزب الأمة الذي يقف في منزلة بين المنزلتين (منزلة المعارضة ومنزلة المشاركة ) وقد تعجل الخروج من اللجنة فلم يصبر عليها سوى اجتماعين اثنين مع أن مقترحاته كانت وجيهة وإيجابية: توسيع تمثيل اللجنة حتى تشمل كل القوى السياسية وتوسيع صلاحيات اللجنة بحيث تضيف ما تراه مناسبا من بنود, وأن تختار اللجنة بنفسها رئاستها وسكرتاريتها,  وأن تختار المقر الذى يتيح لها حرية التداول وأن تتخذ قراراتها بالتراضى, لا بالتصويت (تجاوزالأغلبية الحكومة الميكانيكية ).

أما الحاج وراق فأشار في عموده مسارب الضي, بجريدة الصحافة 22/2/، 2004 قائلا (يأتي تشكيل اللجنة القومية المكلفة بتنفيذ بيان رئيس الجمهورية ليضرب بكل ذلك بعرض الحائط! رئيس اللجنة من غير أبناء دارفور, وليس له سابق علاقة بالملف, ومقرر اللجنة أحد الولاة الحكوميين, بما يعني أنه من أطراف الأزمة المباشرين! ولا تضم اللجنة سوى عددية قليلة من الشخصيات التى تصدع بالحق, وعددية ضئيلة من الشخصيات الناقدة أو المعارضة, وفى ذات الوقت تحتشد اللجنة احتشادا بعشرات الشخصيات الرسمية من الوزراء وممثلى الهيئات والاتحادات الحكومية. والانطباع الذي تعطيه اللجنة لاتخطئه عين: هذه لجنتنا كحكومة, ومن لا يريدها فليشرب من البحر, حتى ولو كان بحرا من الدماء !! والمأساة أن الهدف من تشكيل اللجنة إنما هو لإيقاف بحر الدماء بالذات.. (أما المأساة الأكبر, فحقيقة أنه لا توجد آلية للمحاسبة على الاخطاء السياسية في الحكومة. لو كانت هنالك مثل هذه الآلية لعزل المستشارين السياسيين الذين أشاروا على رئيس الجمهورية بهذا التشكيل, لماذا لا يراجع أعضاء اللجنة تكوينها في اجتماعهم الأول فيلتمسوا من رئيس الجمهورية أن يرأس اللجنة أحد أبناء دارفور. ويلتمسوا كذلك أن تفتتح عضوية اللجنة لتشمل عناصر أخرى هامة وأساسية من أبناء دارفور من أولئك الذين يريدون حل قضايا ولاياتهم, وفي ذات الوقت لديهم الحذر الأخلاقي اللازم تجاه دماء أهاليهم؟).    

أما عبد الله حسن أحمد، عن حزب المؤتمر الشعبي، فقد قال:( إن الحكومة سبق أن أعلنت مبادرات سياسية في السابق, و لكنها لم تقم بإنفاذها, وتوقع أن تكون مبادرة البشير تكتيكا لكسب الوقت, مشيرا إلى أن الحكومة تفتقر إلى المصداقية. أما محمد عثمان المرغنى فقد قال إن الخيار المطلوب هو الحل السياسى للمشكلة باعتبارها مشكلة سياسية في المقام الأول.

أما يوسف حسين عن الحزب الشيوعي, فقد أشار إلى أن وقف إطلاق النار خطوة ايجابية, ولكنه طالب باستئناف التفاوض تحت اشراف دولي, وشدد على أن عدم اتخاذ هذه الخطوة سيجعل من مبادرة البشير بلا قيمة, وطالب الحكومة بتشكيل لجنة اتحادية لتقصي الحقائق، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وإعادة النازحين لمناطقهم الأصلية, واتخاذ تدابير تحول دون انتقال العمليات العسكرية لمناطق أخرى بدارفور، وضرورة نزع سلاح ميليشيات القبائل العربية، وأضاف أن مشكلة دارفور لا يمكن حلها إلا عن طريق الحل السياسي.

وأما ردود أفعال الحركات المسلحة، فقد قال عبد الواحد محمد أحمد عن حركة تحرير السودان، قال إنهم مستعدون لقبول وقف النار الشامل والدخول في مفاوضات شريطة أن يتم تحت مظلة دولية. أما أبوبكر حامد، عن حركة العدل والمساواة، قالوا إنهم مستعدون للحوار على ان يكون تحت رعاية المجتمع الدولي، وحمّل الحكومة مسؤولية عدم الحوار.

أما روابط طلاب دارفور بالجامعات السودانية، في بيانهم على موقع سودانيزأون لاين 16/2/2004 فقد قالوا إن إعلان البشير، الأسبوع الماضي انتهاء العمليات العسكرية في دارفور, هو حلقة جديدة في مسلسل الكذب من قبل النظام, بالنظر إلى استمرار المعارك، وطالبوا الولايات المتحدة بإرسال فريق لتقصي الحقائق حول عمليات الإبادة الجماعية و المجازر البشرية, وتقديم المتورطين إلى محاكمة عادلة.

ذالكم هو بعض ما قد قيل في شأن مبادرة الرئيس التي هم فيها مختلفون!

غير أني أرى أن المبادرة, رغم ما أشير نحوها بقصور أو نقص، يجب أن تستمر وتفعّل، و تدعم بمرجعيات وصلاحيات إضافية, لتأتي بنتائج مقبولة، ولكن لابد أن يعرف الناس هذا الضعف فيها, فلا يتوقعوا منها أكثر مما هي قادرة على تحقيقه. وأنه، على ما فيها من عثرات، يجب على الحادبين ألا ينفضوا عنها ويكتفوا بنقدها متجاهلين إيجابياتها، فينسحبوا من الساحة لتستفرد بها الحكومة. إن غياب الحركات المسلحة عن هذا المؤتمر، وغياب أحزاب كبيرة كحزب الأمة، ومثقفي دارفور، وقد لا يشارك فيه سوى الحكومة وحزبها الحاكم، ومن تبعها بإحسان في مركبة السلطان (حسب تعبير د. الطيب زين العابدين)، يجعل إحداث اختراق مهم من خلال هذا المؤتمر امراً صعباً, ولكن ليس مستحيلاً!

إن مستنيرين من أبناء دارفور يرون أن المبادرة ما زالت مقبولة، من حيث المبدأ، ويجب الترحيب بها، وأنها يمكن إعادة هيكلتها وتفعيلها بحيث تتضمن محورين على مراحل وفق ما ياتي:

محور أول عاجل:

الوقف الفوري لأطلاق النار بين الحكومة و الحركات المسلحة

فتح ممرات آمنة لإيصال الإغاثة بصورة عاجلة

قيام الحكومة السودانية بالسيطرة على مليشيات الجنجويد وتجريد اسلحتها

إعادة بناء القرى التي دمرتها الحرب وحمايتها

خلق الظروف الملائمة لعودة اللاجئين و التعويضات.

محور ثان شامل:

ترتيب مفاوضات سلام بين الحكومة وفصائل الحركة المسلحة برعاية دولية مقبولة من الطرفين، وإشراك الحركة الشعبية لتحرير السودان، بحكم شراكتها في الحكم أثناء فترة السنوات الست الإنتقالية، والولايات المتحدة باعتبارها راعية السلام في السودان، والأمم المتحدة المعنية بالجوانب الإنسانية بدارفور.

أن تتصدى المفاوضات لكل الملفات وكافة القضايا المتعلقة بأصل النزاع وتحديد الضمانات الكافية لتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه وتوقيع سلام نهائي.

تكون للحركات المسلحة حرية تكوين وفدها, على أن ينضم إلى المتفاوضين آخرون من أبناء الإقليم من غير المنضوين تحت ألوية الحركات المسلحة من سياسيين ومثقفين بالتنسيق مع الأطراف المعنية.

ترتيب مؤتمر قومي دستوري ترفع إليه نتيجة المفاوضات الموقعة بين الحكومة والفصائل المسلحة بدارفور لاعتمادها بصورة قومية. كما يناقش هذا المؤتمر تصورات وبرامج دعم التعايش ورتق الخروق القبلية بالإقليم.

إن هذين المحورين ليسا كافيين مالم نستصحب معهما الحقائق التالية:

ثمة أزمة ثقة بينة فيما يخص وفاء الحكومة بالعقود من أمثلة ذلك اتفاقية الخرطوم للسلام بين الفصائل الجنوبية، إلى درجة تضمينها في دستور 1988، ومع ذلك نقضتها الحكومة. حتى اضطرت معها هذه الحركات إلى العودة إلى الغابة من حيث أتوا، وقبلها وبعدها العديد من توصيات المؤتمرات و الندوات ومعاهدات نداء الوطن، والمؤتمرات القبلية (بلغ عددها 32 في عهد الإنقاذ!), آخرها توصيات مؤتمر الفاشر التشاوري في فبراير 2003، و بالتالي لا معنى لاتفاق لا نفاذ له، فلا بد من ضمانات دولية او اقليمية، حتى تطمئن الفصائل على جدوى الاتفاقات و نفاذها.

لا بد من أنشاء لجان تحقيق مستقلة دولية ومحلية للقيام بدراسات وتحليلات كافية عن الازمة ومسبباتها واجراء تحقيقات قانونية معمقة حول اتهامات القتل والتشريد وحرق القرى وانتهاكات حقوق الانسان وتقديم المتهمين إلى العدالة.

تعويض الممتلكات ودفع الديات والسعي في المصالحات ودعم الوحدة والتعايش السلمي.

لابد من الصراحة والشفافية وإظهار ونشر كافة الحقائق المتعلقة بالأزمة واضطلاع الشعب السوداني و العالم عليها.

تغيير لهجة الخطاب الإعلامي والنأي بها عن الاستفزاز والتحقير وانتهاج مبدأ المساواة والتعاطي البناء مع ما يخدم الوحدة والتآخي وتناول البيانات بصدق وشفافية.

لعلي قبل أن أختم هذه المحاضرة استعير عبارات الأستاذ المحامى عبد الرحمن حسين دوسة والتي جاءت في ورقته الجيدة بعنوان (أنانية عملاقة ما بين دارفور والخرطوم) المنشورة بموقع سودانايل حيث قال: (القناعة التي تأصلت بفعل ضمور مصداقية المركز أنه لا يمكن إحداث تنمية حقيقية ومستدامة بالأقاليم من دون إجراء تغييرات جذرية في طبيعة علاقة المركز مع الأقاليم، تكفل المشاركة المتكافئة في صنع القرار وتحقق الندية الخالية من الاستعلاء. إن المطالبة بالحكم الفدرالي, حق الأقاليم بانتخاب ولاتهم, حق التمثيل العادل في المؤسسات القومية, السيطرة على الموارد المحلية, الديمقراطية في الحكم والشفافية في الإدارة, تطوير الثقافات ومعاملتها المتكافئة, إعلاء قيم المواطنة وكفالة الحريات الأساسية استقلال القضاء وعدم التميز على أساس الدين أو العرف, كلها أمور ما عادت امتيازا يمنحه المركز, وإنما أصبحت حقوقا لا تستقيم وحدة البلاد إلا بالاعتراف العلني بها وممارستها, علما بأن البديل هو تراكم المرارات والآلام إلى حدٍ لا يستطاب إلا دواء البتر عن طريق تقرير المصير, ولا أحد بالطبع يرغب في مثل هذه الخطوة.)

وفي الختام لابد لي من التأكيد على أنّنا دعاة وحدة، ففي زمن الكيانات الكبيرة، لا أحد ذو عقلٍ ينحو نحو الفرقة و التشرذم، و إلا أصبح خارج التاريخ. إنا نؤمن بهذا الوطن الرائع ذي الإمكانات الجبارة، رغم العجز الماثل، و رغم ظلم ذوي القربى. ونؤمن أن فرصتنا في إقامة وطن متحد بتنوعه، متنوع في وحدته، تشمل جميع أعراقه وثقافته وألوانه المدهشة المتناغمة المتجانسة، ما زالت فرصة باقية. إن الذين يودون تمزيقه، أو قولبته، وسوقه إلى الهاوية، يجب إجهاض مشاريعهم، وكفهم عن ذلك. إن الجراح التي رمّت على فساد، ما تزال تنخر و تتقيح، وتفتك، ولابد من فتحها و تنظيفها، حتى تبرأ و تشفى. وإلى أن نتمكن من ذلك فلا بد أن نبدأ بإعادة التفاوض حول تشكيل الدولة السودانية، على أسس جديدة شاملة، وبالتراضي والعدل والمساواة.

إن الدعوة المنيرة الصادقة الأمينة التي أطلقها الدكتور العالم عبد الله علي إبراهيم حول ضرورة إجراء المساومة التاريخية حول الوطن كضرورة حتمية، وهي القضية التي كان ينبغي أن يفرغ السودان منها منذ عام 1956م، تلك الدعوة ينبغي أن يهتم بها كل سوداني حادب على مصلحة الوطن. إني لأرجو مخلصاً أن تكون أحد هموم منظمات المجتمع المدني والتي عنيتها في هذه المحاضرة، فلعل هذه الدعوة أن تكون أول بنود المؤتمر الدستوري الذي ننادي به.

إن أعمدة الهيكل تتداعى تباعاً، فهل نترك "شمسوننا" الجبار يفعلها؟!!

ما جرى في الجنوب, وما يجري في دارفور هي أوائل النُذُر!

لقد أسمعت لو ناديت حياً !!!ً

عالم عباس محمد نور

مساء الخميس أول ابريل 2004

القنصلية السودانية - جدة